تدغدغ مشاعر الناس، تلهب حماسهم، تعدهم بازدهار ورفاه، شعارات تُكسب مطلقيها ثقة الناس فيصلون إلى السلطة. حدٌّ سواء في أكثر الأنظمة ديمقراطية أوأشدّها ديكتاتورية، مهما اختلفت التعريفات وتشابكت وتناقضت. أمّا أن يبرد حماس الناس تجاه شعار لمجرّد أن من رفعه ليس من دينهم فتلك هي القضيّة.
يوم رأيت للمرّة الأولى على إحدى اللوحات الإعلانية في بيروت شعار "إلا رسول الله" أخذتني الحيرة، هل قصد من رفع هذا الشعار أنّه قبل كل ما لحق بالإسلام والمسلمين من عار وويلات وأن هذه المصيبة هي القشّة التي قسمت ظهر البعير؟ دعوة المسلمين ليهبّوا نُصرةً لرسول الله بدت لي استخفافاً بعقولهم، أو على الأقلّ استخفافاً بالمصائب التي تعمّ عوالمهم ودويلاتهم. سخيف دون شك أن يقتنعَ إنسانٌ ما أن كرامة شخص غيّر وجه العالم كما فعل الرسول الأكرم يُمكن أن تمسّها رسومات سخيفة كتلك التي أقامت الدنيا وأقعدتها.
أن ينفعل المسلمون، وأن يغضبوا بسبب تلك الصور أمرٌ يمكن فهمه، وأن يتحرّك العالم الإسلاميّ المعولم بسبب تصريحات بابا روما أمرٌ يمكن فهمه أيضاً، لكن ما يستعصي على العقل هو اعتبار تلك الصور أنّها الحدّ الأقصى لما يمكن أن يقبل به المسلمون فيما غزّة المحاصرة لا يغمرها إلا نور الآتين من بلدان تلك الصور. لكأنّي بالذي هبّ لنُصرة النبيّ قد وجد بعد إعياءٍ ما يوهم به الناس بغيرته على الإسلام والمسلمين بالرّغم من سكوته عمّا يلمّ بهم في مدنهم ومنازلهم.
هل تخلّى المسلمون عن أقصاهم وأقداسهم؟ لو أنّهم تخلّوا لرأيتَ دولهم تدخل في دين اسرائيل أفواجا، لكن كلّما تناسوا سيحمل البحر قوارب آتية من لارنكا إلى أن تسبح غزّة بأسرها إلى قبرص.لو حاولنا أن نحصيَ ما ألمّ بهذا العالم الإسلاميّ لذُهِلنا، أو أقول إنّي حاولتُ فذُهِلت. هذا العالم الإسلاميّ الذي تقسّم وتشرذم، لكن لم تقسم ظهر بعيره إلا رسومات بائسة تافهة، فنحر بعيره وأقام مأدبة أخيرة.
ثمّة شبح يتهدّد اليوم العالم الإسلاميّ، ومداراةً للواقع، أو اعترافاً به، أقول العالم الإسلاميّ النفطيّ، هو ليس شبح الشيوعية الذي عاد إلى عالم الأشباح بفضل الانفتاح ونشر الديمقراطية بالوسائل السلمية، وهو بالتأكيد ليس شبح الديمقراطية الصديقة التي وجدت صيغةً للتعايش مع الديكتاتوريّات النفطيّة دون أن تخفض سلاحها في وجه الديكتاتوريّات الشمولية غير النفطيّة. ليس هو شبح نفاد النفط، ولا شبح احتمالات انهيار البورصات ولا شبح تضخّم الأسواق العقارية. هذا الشبح ليس شبح الإرهاب الأصولي المشغول أصلاً بتهديد عوالم أخرى. ليس شبح التقسّم ولاشبح ضياع البلاد وفناء العباد. بالتأكيد ليس شبح اسرائيل الرازحة على صدور من أبَوا الخروج من خنادق المعركة إلى نعيم رحاب العولمة. الشبح الذي يتهدّد العالم الإسلاميّ النفطيّ اليوم هو شبح دخول إيران إلى النادي النوويّ. الحقّ، أعتقد أن أشباحاً كثيرة تتهدّد هذا العالم اليوم، كشبح مواجهة روسيا للدرع الصاروخيّ الأميركيّ و شبح شافيز الذي يصول ويجول في الباحة الكبرى لعالم منتجي النفط وشبح التقدميين الذي يحكمون السيطرة على الباحة الخلفية للولايات المتّحدة. شبح أوباما. شبح "حسن نصر الله". ميليشيا ترفض أن تكون مجرّد ميليشيا خاضعة للقرار الدولي، مع أنّي لم أسمع عن ميليشيا خضعت يوماً لقرار دوليّ. سلاحه الصاروخيّ المرعب ليس إلا أسهل شروره. أمّا تفاهماته التي قد بدأ بتوسيعها فتلك الطامّة الكبرى. أن يوقّع تفاهماً مع بعض أهل الذمّة من النصارى لأهون على النّفس من توقيع تفاهمٍ مع بعض أهل السنّة من السلفيين. يوم اندلعت التصريحات الشاجبة لهذا التفاهم تراءى لي على اللوحات الإعلانية شعار "إلا توقيع التفاهمات". تفاهم بين شيعي وسنيّ! ماذا بعد ذلك؟ أن نعود لأسطوانة "إسرائيل العدوّ الأكبر" و"فلسطين هي القضيّة المركزيّة"؟
يوم "أعلنُ قناة السويس شركة مساهمة مصرية" التهب العالم حماسة، ليس العالم العربيّ ولا العالم الإسلاميّ فحسب، بل العالم بأسره. يومها اختفت الأشباح وصار جمال هو المارد الأسمر الوحيد الذي يتهدّد العالم، لم تُرفع شعارات "إلا عبد الناصر"، "إلا بلاد المسلمين"، "إلا العروبة"... يومها لم تقدر عباءات النفط أن تزرع شكّاً في قلوب المسلمين ولا وهماً. لم يكن جمال شيوعياً ولا من أهل الذمّة، والأكيد أنّه لم يكن عميلاً شيعيّاً للفرس. أثار أفضل ما في الناس، أثار ما اختزنوه سنوات طوال، من المحيط إلى الخليج، بالرغم من السياسيات والتحالفات والخيانات والتعقيدات. صور البطل الأسمر اجتاحت كل المساحات تماماً كما اجتاحتها صور البطل الملتحي المعمّم بالأسود إثر نهاية حرب تمّوز. لكن عمامات أخرى كانت بالمرصاد وتراجعت الصورة بسرعة، صورة الرافضيّ المنتمي إلى المنشقّين عن طاعة الخلافة من السهل أن تتراجع أمام "صلابة الولاء". ما تبع حرب تمّوز من مشاحنات ومناورات وتكتّلات والجهود التي بُذِلت لصبغها كلّها بألوان فئوية تغطية لحقيقة الصراع السياسيّ خدّر الحماس الشعبيّ وأعاد اندفاع الدم الهمجيّ في العقول، عدنا إلى داخل ما تُرك لنا من تراب لم يُحتلّ ونسينا ما وراء الحدود. لم يكن تذكيرنا مرّة بأن "نصر الله" شيعيّ يتربّص بالسنة ليفرّقهم ويقضي عليهم كافياً، لكن الإعلام المعولم ثابر على تنبيهنا حتّى تنبّهنا. يكاد لا يُذكر اسم "حسن نصر الله" مرّة في الإعلام الغربيّ إلا متبوعاً أومسبوقاً، حسب أصول اللغة، بصفته الشيعيّة، مع أنّي لم أصادف مرّة اسم أسامة بن لادن مقروناً بصفته السنيّة أو السعوديّة، وواقع انتماءات الشخصين لا يخفى على أحد. ليس سرّاً أن نصر الله توسّل شيعيّته، بل استنفدها في عمله السياسيّ، وليس سرّاً أنّه جزء من واقعنا الطائفيّ الرديء. هو، ككلّ من يعمل، قد أخطأ دون شك، ناور معتمداً على طائفته وغامر برصيده في الطوائف الأخرى دون شكّ أيضاً. لكن ألم يناور مرّات أخرى معتمداً على رصيده في الطوائف الأخرى؟ ألم يغامر برصيده في طائفته؟ هو جازف بكلّ ما لديه، حتى ببقائه على قيد الحياة، وذلك طبعاً لا يجعله ملاكاً. البحث في شخصيّته يطول ويتعقّد وتختلف فيه الآراء، وأنا شخصيّاً لست معجباً لا بعباءته ولا بحركة يديه ولا بغرّته الظاهرة من تحت عمامته، ولا بانفعالاته حين يخطب ولا بنكاته التي يلقيها. ولست ثملاً بما حدث في البقاع ولا في بيروت ولا في الشمال ولا في الجبل ولا في أيّ بقعة حصل فيها ما حصل. حتّى أنّي لا أقبل عبارات كسر اليدين وقطع الرؤوس التي لجأ إليها غير مرّة في حديثه المدافع عن المقاومة الإسلامية. أنا لا أحاول أن أعطيَ الرجل حقّه، فعنده من القوّة ما يكفي ليعيد توزيع الحصص والحقوق فيما حقّي كمواطن وكعلمانيّ ما زال شريداً. أحاول أن أتجاوز، ولو بالوهمِ، واقع انقساماتنا، نحن اللبنانيّون أو نحن العرب أو نحن شعوب العالم العربيّ، نحن الذين سكنت الشياطين تفاصيلنا فتناسيناها إلى أن تمدّدت حركة استيطانها التوسّعيّة إلى جوهرنا.
ماذا لو كان من أهل السنّة؟ هو الذي لاقته عفوية الشارع الذي لم يطبّع ولم يتعولم، وتلقّفه من لم يفقدوا أملاً ومن عضّوا على جراحٍ قديمة أو حديثة حتى لو كان هو من سبّبها. ماذا لو كان من أهل السنة؟ بأيّ انتماء كانوا سيتّهمونه؟ أو في أيّ كهف كانوا سيختبئون من موج ناسه الذين على دينه؟ أما كان النفط سيبحث عن قمّة ليكسر حصار غزّة؟ أما كانت لتنصت تلك العمائم والجلابيب وتترك الأمر لأصحاب الأمر؟ أما كانوا على الأقلّ سيبحثون عن نصرٍ ما لينافسوه؟ أما كانت اللوحات الإعلانية ستعلن "النصر لأمّة الإسلام"؟ ماذا لو كان حسن نصر الله سنيّاً؟ هل كان ليُهاجَم لو وقّع تفاهماً مع الشيعة؟ ماذا لو أن حسن نصر الله السنيّ نال قسطاً من الدعم العسكريّ الإيرانيّ أو المساعدات السياسيّة أو اللوجستيّة السوريّة؟ ماذا لو نال دعم دولةٍ يكون أهل السنّةُ فيها على رأس السلطة؟ ماذا لو؟
لو كان سنيّاً لما اتُّهِمَ حلفاؤه بدم رفيق الحريري، لأسقط الحكومة السابقة في ساعة، ولدخل عسكره شوارع بيروت تحت الأرزّ والزغاريد. لو كان سنيّاً لارتعدت فرائص الأنظمة ولملأت أصوات الناس كل عوالمنا ودويلاتنا ولما قامت قائمة لمشاريع تطبيع أو توطين، لخشيَ العالم من أزمة نفطيّة، لوصلت المظاهرات إلى المراتب والعروش، لانعقدت القمم على مدار الساعة، لانتهت حرب تمّوز في ثلاثين دقيقة أو لأشرفت بيروت على القدس ويافا. لملأت "سنّيّته" كل الاحتمالات الحالمة المستحيلة، أو لربّما ابتدعوا هزيمة أكثر ابتكاراً يمنون بها الشعوب.
لو كان سنيّاً لما أُعفيَ من "سنّيّته" كما هو اليوم غير معفيّ من "شيعيّته". لما نجينا من هواء الطائفية الأصفر، لكن لو كان سنيّاً لخسر الكثيرون حجّة "شيعيّته" واضطرّوا للبحث عن حجّة أخرى. الحمد لله، في عالمي تتوفّر الحجج التافهة بسهولة فلا يضطرّ أحدٌ للبحث عن كذبة ذكيّة، الكذبات البلهاء قد صدّقناها قبل أن تُرمى.
بيروت 28-8-2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق