بيروت 27/08/2006
توقّفت في منتصف الدرج واستدارت بطيف ابتسامة محنية رأسها بعض الشيء في استجابة عذبة لتصفيق ألهب أيدي بضعة شبّانٍ دخلوا المعابد باكراً، قبل غروب الشمس. أفعمت قلوبهم ثم استدارت متابعة صعودها بعد أن توقّف التصفيق. دخلت الإلهة معبدها العتيق. اختفت بين ما تبقّى من حجارته وبين ما تم تركيبه خصّيصاً لها.
ملأ الليل الفراغات في المعابد بسرعة تلك الليلة، كنّا بالكاد نصدّق حقيقة ما كنّا على وشك أن نعيشه. ستقف على تلك الأدراج شمعة من زمن اعتقدته مضى دون أن يترك سوى عبق في روايات من عاشوه، ستضيء الزوايا والحنايا بنقطة زيت واحدة في السراج. امتلأت المقاعد وما بينها. كان الطقس ملائماً لتلك المناسبة، نسيم الليل موآتٍ. الكثير من التفاصيل التي لن تتسرّب أبداً من الذاكرة. حين عزفت الموسيقى، راحت العيون تبحث عن الإلهة العائدة إلى المدينة. حتّى تجلّت زرقاء معتلية التاريخ. انتهت الحرب. رجعت فيروز إلى بعلبك تسأل عن الذي ما يزال خياله على الأدراج وتطير به الدنيا. كانت تبحث عن عاصي. موسيقاه ومنصور تصقل صخر المعابد مرّة أخرى فتعيد إليها رونقاً دون أن تزيل عنها شواهد الأيّام. صوت فيروز يعبر السهل إلى أطرافه عند سفوح السلسلتين، يطرق أبواباً منسيّة في الحارات، "وينن؟" يسأل عن الذين كانوا فيها. وجهها إلى السهل الواسع، وطنها "كالسيف المسنون وبهدير الأيام الجايي مسكون". فيروز في بعلبك. خلتها قصّة تُروى عن بلاد وهميّة. ليس لأنّ فيها عين ماء وجرار وقرى سعيدة، بل لأن فيها كثير من العزّة والمقاومة. هذه المدينة لم تعانِ شيئاً يُذكر من الحرب الأهليّة أكثر من غياب فيروز والأخوين.
يوم غابت فيروز عن الأدراج، قُرعت طبول الحرب في بعلبك، وإن على إيقاع مختلف عن إيقاعاتها في الأرجاء الأخرى. مرّت سنوُّ الحرب، غبارها بالكاد أزعج المعابد. انتهت الحرب في بيروت وبقيّة الأماكن. كل المطارح أضيئت قناديلها وعمرت لياليها، واجتاحها سائحون يتكلّمون بلهجات ونبرات عربيّة وأجنبيّة، المطاعم والملابس والموسيقى المعولمة أو المتأمركة، لا فرق. كل شيء يوحي أن الذاكرة قد انقطعت، أن الحرب وكلّ ما قبلها تفاصيل ضاعت في النسيان. البلد جاهز لما سوف تأتي به أيّام السلم، أو قل أيّام صمت المدافع. لكنّ الحرب لم تنتهِ في بعلبك. غياب فيروز هو الحرب الوحيدة في المدينة، وغناء فيروز مفتاح ذاكرة المدينة الوحيد.
حين عادت تقف على قمّة الأدراج، أعلنت السلام على الأشجار والشوارع والأزقّة والناس. أعادت مشاهد كنتُ قد تخيّلتها بألف شكل وألف لون. عاد صفاء قديم إلى ليل الأعمدة الستة. تلك الليلة نَسِيَت الأعمدة، مرّة أخرى، جرحها المفتوح منذ تهاوت الأسقف عن تيجانها مع سقوط أعمدة أخرى كانت تؤازرها.
هكذا غابت فيروز فقامت الحرب، و لم تقعد إلا بعودة فيروز.
شهر تمّوز هذا العام، انتظرت فيه المدينة سلامها في لقاء جديد. لكنّ حرباً أخرى قطعت سبل السلام ومعابره، موت بلا جنائز غيّب أفق الفرح. هذه الحرب طاولت بعلبك بعنف. طالت المنازل والأحياء. خلت الشوارع والمقاهي والليالي من أصوات السهرانين وغصّت بانفجارات القذائف والصواريخ. تمرّد الغبار وحده. ليس لهذه المدينة بوّابة، لكن ليلة وصل إليها الغزاة، ضجّت الفضائيّات والدنيا بأخبار الإنزال. غياب البوّابة، لم يمنع مدلج من أن يصمد دون خوف، وحده في وجههم. تلك الليلة من تموز صمد مدلج ذاته، باسمه ولحمه ودمه وشعره "المخوتم". إسمه مدلج كما شاءت الصدفة، وسقط مع انبلاج الفجر بطلاً لم ينل منه خوف. ربّما خرج من الحكاية، أو كتبها ، أو أن الحكاية الرحبانيّة كانت قد كُتَبَت له.
المشاهد التي أخرجتها ريما تملأ الشاشات وتبعث في الأجساد قشعريرة. نبحث في الصورة عن ابتسامة، عن انتصار، عن انبعاث ينفض الأنقاض، عن الذي لا بد أن يجيء مهما تأخّر. نتساءل أحيانا في غمرة الانتظار عن الذي لا بدّ أن يأتي. سيأتي سلامٌ وانتصارٌ ومجد، غدٌ يحمل أملاً. نخشى أن يكون الآتي شرق أوسط جديد على الشكل الذي يرسمونه. بعض إيماننا ليس ساطعاً، لكن يبدو لنا أن إيمان فيروز والأخوين رحباني يسطع بما يكفي. نستكين إلى سطوع صوتها الصدّاح والكلمات، أو ننتفض على وقع الحرب.
انتهت الحرب مرّة أخرى في الأماكن الأخرى، إلا في بعلبك. سلامها لم يأتِ بعد. لم تلعلع ضحكة زياد ولم تخرق سماء الصيف. لم تعتلِ فيروز الأدراج بعد. لم تعلن سلامها، ولم ترسم فصلاً جديداً في حاضرنا ومستقبلنا بعد. ما زالت قصص أطفالنا الذين لم يولدوا ، تنتظر روايات جديدة لم تُكتب. قصص الجن تبحث عن جسر القمر وعن سهرات ورواة يروون "قصّة خلف القصة تجن". فاتك قد فرّ مع ديبو والعسكر. القطار الذي لم يصل إلى محطته بعد، لن يكون بانتظار استيقاظ الحاكم النائم ليطبع ختمه موافقا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق