لعل العولمة الثقافية هي الوجه الأكثر عمقاً في التاريخ من أي من وجوه العولمة . إذ قبل أن ينطلق الفاتحون الكبار لضم العالم إلى إمبراطورياتهم ، على حدّ زعمهم ، كانت الأديان و الأيديولوجيات و الفلسفات تحاول أن ترتدي ثوب الشمولية و الكونية . فالعولمة كانت أمية بمعنى أممية مع اليهود و الإسلام و إنسان و إنسانية مع المسيحية و الإسلام ، ثم تغيب لتظهر من جديد في كل عصر لها لون و اسم جديد أو متجدّد .
و اليوم لم تعد العولمة الثقافية تجرّ خلف راياتها جيوش المسيحية و الإسلام نشراً للعقيدة و الثقافة و المفاهيم ، بل تخلّت عن الراية ، مشكورة ، لتعطيها للعولمة الاقتصادية التي نضجت ظروف تشكّلها بدأت حربها الشعواء .
لذلك أظنّ أن الحديث عن تأثير ثقافي للعولمة يجعل الموضوع مجزوءً ، فالعولمة ليست نظاماً اقتصادياً يؤثر في السياسة و الثقافة ، بل هي كما أفهمها ، بلوغ نمط الإنتاج مستوىً معيناً يتعذّر معه على الحدود الجغرافية - السياسية أن تبقى صامدة . فالعولمة بهذا المعنى لا تؤثر في السياسة ، بل تحتّم نظاماً سياسياً يستجيب لمتطلّباتها . و لا تؤثّر في الثقافة ، بل تحمل وجهاً ثقافياً و يقتحم و يدمّر ، أو يحاول تدمير كل ما يتعارض مع الموجبات المستجدّة للعولمة . وجهها الثقافي تنقله إلى العالم وسائل الإعلام العالمي ، و حيثما ينفذ يترك بصماته التدميرية تقول : " العولمة آتية إلى هنا " على غرار ما كنا نرى : " أبو الزوز أو أبو الجماجم مرّ من هنا ".
من أجل دفع المستهلك إلى شراء سلعة جديدة ، يفعل الإعلام " السبعة و دمّتها " موهماً " المُستَهلَكين " بضرورتها و عدم إمكانية العيش الرغيد الكريم بدونها . فالاستغناء عنها يعني " التخلف " عن ركب الحضارة و عن العالم كلّه الذي اكتشف أهميّتها منذ زمن بعيد ، و لم يعد يستغني عنها أيضاً و صار يستهلكها بانتظام .
و اللبناني طبعاً ليس متخلّفاً عن العالم .
و في حين نرى الإعلام الغربي " المتقدّم " يسخّر الإنترنت و القنوات الفضائية لتسويق ثقافة يوهمنا أنّها ثقافته " المتقدمة " ، نرى وسائلنا الإعلامية تعيد بخبثٍ حيناً ، وبغباءٍ أحياناً ، بث و تسويق تلك الثقافة . الإنتاج الإعلامي المحلّي يطمح إلى تقليد الإنتاج الغربي فتتداعى القيم و تتداعى حتى اللغة .
إعلانات السجائر و المشروبات الكحولية و الأفلام و المسلسلات الأميركية بوجه خاص ، تعمد بشكل أساسي إلى تصوير العنف باعتباره بطولة ، " الحرامي " ذكي و قوي و شرس ، و " البوليس " أذكى و أقوى و أشرس ، فالبوليس هو البطل . الهندي الأحمر يصبح متوحشاً يتّسم بالخبث و الغدر ، و راعي البقر الأميركي يصبح شهماً شريفاً مقداماً بطلاً يهزم الهندي الأحمر الشرير ، رامبو وحده يقلب المعادلات السياسية و العسكرية ليكشف " لؤم " الفيتنامي و " جبنه " و " غبائه " . هكذا ، بكل سهولة يريدون أن يزيلوا من ذاكرة الشعوب صورهم البشعة والقذرة ليلبسوها ثوب البطولة ، حتى صرنا ، رغم تبجّحنا كلبنانيين و كعرب ، بامتلاكنا أرقى التقنيات و المهارات الإعلامية ، و نظن أن إسرائيل مثلاً لم تعد قادرة على ممارسة العنف ضدنا سرّاً دون أن يرى العالم أجمع ذلك و يدينه، صرنا نخاف من أن يكون التسويق للبطل العنيف قد اغتال لدى الرأي العالمي كل ردّة فعل ضد العنف . صرنا نخاف من أن نصفّق يوماً للبطل الذي سوف يوجّه بندقيته الليزرية إلى صدورنا ، فالأنظمة العربية منشغلة بقضايا يزعمونها كبرى ، و تعبّر بوضوح عن إصرار بالتخلي عن واجباتها في هذا المضمار ، و الأحزاب السياسية تسير على هذا الصعيد بخطٍّ متوازٍ مع خط الحكومات . و الكل مجمع على أن تأمين العلم و المعرفة والحياة الكريمة للمواطن يأتي بالدرجة الأقلّ إلحاحاً ، متناسين أن المواطن الذي تُرعى حقوقه هو درع الوطن و حصن الثقافة و حامي الهوية . ما دامت هويتنا ضائعة بين الوطن والعشيرة و الطائفة ، و ما دام تاريخنا متشرّداً بين أمراء الجبل و إقطاعيي الداخل و تجّار الساحل ، و ما دمنا نجترّ الأخطاء و لا نتعلّم منها ، كيف نمهّد لأنفسنا الطريق لاستقبال الآتي العظيم ؟ إن أسلوب النعامة لا يصلح لمواجهة العولمة ، و من يرى الحل بالرفض هو كمن يريد أن يجفّف البحر بدل أن يتعلّم السباحة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق