أقلّب أقنية التلفزيون كما اعتدتُ أن أفعل حين يغلبني الخمول، تمرّ الصور أمامي متشابهة تماماً، كما اعتدتُ أن أراها، "لا للطائفية" بخطٍّ أبيض عريض على خلفية سوداء، كما اعتدتُ أن أسمع وأرى. أثار فيّ الشعور بالسخرية من الغباء المتجذّر شعار "لا للطائفية" الذي اعتدته على مرّ سنوات الطفولة و الشباب، تشدّقت به ككل لبناني، استسغته كما استسغت صور أمراء الحرب وزعماء الميليشيات "ينقذون البلد" من الفتن والمؤامرات، ويتعالون على جروح الماضي و يعفون عن بعضهم أو عن أنفسهم، يرسخّون الديمقراطية في بلد الحرية ، يجذبون السواح والمستثمرين ، يقاومون ويفدون الوطن بدماء الشهداء يقودون الوطن إلى دولة المؤسسات ... تلك المؤسسات التي طاب لهم بناءها عوجاء ثم هدمها ثم إعادة بنائها عوجاء نحو الجهة الأخرى ، وطاب لنا الكلام عن كذبهم وريائهم.
"لا للطائفية" تمرّ أمام عينيّ فينتعش بي الحنين لشعارات المظاهرات و الإعتصامات و أوراق الصحف و نشرات الأخبار . سنتخلّص من الطائفية يوما ما، و سنبني "لبنان المحبّة" ، "لبنان الدولة العصرية"... لكن ما يفاجئني و يدفعني للضحك بصوت مسموع ساخراً من نفسي ، أن ينتهي إعلان "لا للطائفية" بـ "عراقنا"... إذاً هي ليست الطائفية في لبنان، إنها طائفية أخرى في العراق، بالكاد رأت النور تلك الطائفية، ما زالت طفلة رضيعة، لم تبلغ سن العصيان بعد كالطائفية في لبنان. ليتنا كنّا في زمن الجاهلية، زمن الوأد، ربما وأدنا الطائفية الرضيعة قبل أن تكبر، وأدنا المؤامرة قبل أن تتربّص بنا "في هذا الوقت بالذات" ، هذا الوقت بالذات الذي لا ينتهي ، يبقى أبداً "الآن بالذات". الطائفية التي مرّت على شاشة التلفزيون إنما هي طائفية العراق وليست طائفية لبنان. ليس هناك طائفية في غير لبنان، هي ميزة لبنانية بحتة، أو كذبة لبنانية بحتة، كما نسمّيها. لا للطائفية... في العراق طوائف تتذابح. لا للطائفية... في مصر طوائف تتذابح. لا للطائفية... في سوريا طوائف ستتذابح. لا للطائفية... في لبنان طوائف تذابحت وتتذابح. لا للطائفية... في الوطن العربي طوائف متذابحة تنسلّ تحت جلدنا و تحرّك أيدينا نحو السكاكين والنحور. غبار الدمار في بيروت يعبر البحر إلى مغارب وطننا ، يعبر الصحراء إلى مشارقه. غبار دمار الحرب الأهلية، حرب الآخرين على أرضنا، حرب لا نعرف كيف نسميها، كيف نرفضها، كيف ندّعي أنها لم تقع يوماً عسى أن تُتاح لنا فرصة أخرى لنعيدها مرّة أخرى، قد لا تكون في لبنان، بل في أي بقعة عربية أخرى، أي بقعة يتنادى فيها زعماء الطوائف لرفض الطائفية ، ويهبّ القتلة للمقاومة ، و يتداعى أمراء الحرب لترسيخ التعايش السلمي ، و يسعى كبار المتموّلين لجذب السواح والمستثمرين.
في العراق سنقتتل خمسة عشر عاماً و "نخرج لتوّنا من الحرب" و نحرّر و نعيد البناء لخمسة عشر عاماً أخرى، وسنستقلّ ونتحاور و نعزّز العيش المشترك... سنكتب تاريخنا ألف مرّة في كل بقعة عربية ، و سنخجل منه في كلّ مرّة ، وسنعتاد أن نرسم مئذنة مسجد قربها جرس كنيسة كما اعتدنا أن نفعل في كل مرّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق