الأحد، سبتمبر 21، 2008

شخصياً يوم الحقيقة

يطرقون الباب، يطالبون بآلة التصوير التي لمحوها تلتقط صور الشبان عن الشرفة فأثارت الحفيظة. أرفض الطلب بلطفٍ مستعدّاً لتحمّل العواقب، اكتشافهم أنّي من الطائفة المناسبة وانشغالهم بما هو "أعظم وأهمّ" أنساهم وجودي. في الساعات القادمة سوف ينسون أو يتجاهلون وجود أي إنسان. التصعيد، بانكشافاته الفاضحة، حوّل كلّ الشفاه إلى سفيهات. إن أحداً لن يتراجع أو يتردّد في زهق الأرواح، أحداً لن يتردّد في تخلّيه عن إنسانيّته.

ضجيج تلك الليلة كان أخرقاً، يندفع الهواء المضغوط مرّات ومرّات عبر الشارع صعوداً حتى النوافذ، وترتعش له أواني المطبخ طوال الليل. كان شبيهاً بمخاض الشرق الأوسط الجديد الذي لن يولد أبداً. أغرب ما فيه أنّه لم يحمل خوفاً، إذ بدا لي ارتفاع الطوابق العاقل فاصلاً كافياً عن تخبّط الشارع بجنونه، وعن التصريحات اللاسياسية الرعناء. ما يدور ليس سوى غفلة غاب فيها ادّعاؤنا المكابر، وبانت المسافة التي تفصلنا عن حقيقتنا صغيرة جدّاً. الكهرباء لم تنقطع، ولا التصريحات الكاذبة انقطعت.

العنف الدائر يتجاوز جغرافية البلد، الأطراف كلّها تدافع، لا مهاجم ولا معتدي، الكلّ يقصد الأفضل للوطن والكلّ يسعى لبناء الدولة حتى لو كان سعيه دماراً شاملاً. الكلّ يقرأ في التاريخ السياسي ويستشفّ المستقبل. دم الشبّان يندفع حارّاً في رؤوسهم فيغشي الأبصار. وحدي أتوه في ظلمة جهلي شارداً، أتلمّس الأسود الملتفّ بحثاً عن جدارٍ واقفٍ أستند إليه فتلتقي يداي بأيدٍ ممتدّةٍ وراحاتٍ مصافحة. النقّال يرنّ ويطمئنّ كلّ دقيقة.

كلّ أزيزٍ وانفجارٍ حمل انعتاقي من كلّ مداراة لمدّعي الثقافة في العمل السياسي واحتقاري لهكذا قادة. الأصوات الدافقة من الخارج توضح ملامح المجتمع الممتدّ من غياهب تاريخنا الحديث. جريمة واحدة تبيح في بلدي المذابح وكل الجرائم الأخرى. تلاشت أصوات المعركة في قصف الرعد، وتحت أمطار الفصل الأخيرة تلك الليلة، اغتسلت من كلّ تردّد في المواجهة.

موقع القرار كالعذراء المغتصبة، المزارع الميليشيوية والمشاريع المالية، أكلة الجيف تمزّق أحشاء الأحياء. استيلاؤهم على السلطة بعد الحرب الأهلية الأخيرة خراقة ارتكبها الشعب اللبناني، ارتكبتها أنا شخصياً دون شك، لكنّ في التجربة غنىً، ولقادم الأيّام نعتبر. لن أسمح للغد أن يحمل ما يجد في طريقه، لا تعايش أركن إليه ولا صيغ أثق بها، الغد سأرسمه بأدقّ تفاصيله، غداً سأصنع دولة. غداً سأعدّ لهم سجوناً لا تشبه السجون التي أعدّهوا لي، بل سجوناً ممرّاتها يغمرها ضوء الشمس، وألوان زاهية، وكتبٌ يقرؤونها فيعقلون وحدائق خضراء يزرعونها، فيها كلّ ما ليس في السجون التي بنوها لي، في السجون التي سأعدّها لهم كلّ ما ينسيهم رغبتهم في الخروج والسعي إلى السلطة.


بيروت 1 / حزيران / 2008

ليست هناك تعليقات: