أتكلّم اليوم ، كطالب جامعيّ ، عن دور الجامعات في بناء المواطنية، أشعر كأنني أنظر إلى نفسي لأرى أي مواطن أنا، أي مواطن يمكن أن أكون، وأي مواطن يجب أن أكون. إن كان المقصود بكلمة "مواطنية"، إدراك واجباتي وحقوقي تجاه الوطن ، لا يسعني إلا أن أقفز للمقارنة بين طلاب الأمس ، قبل الحرب ، و بيننا نحن ، طلاب اليوم ، بعد انتهاء الحرب ، بل بعد أكثر من خمسة عشر عاما على انتهائها. بين طلاب صنعوا تاريخ الوطن الحديث بكل إنجازاتهم وأخطائهم ، فرسموا صورة لحركة طلابية وطنية مجيدة، وبين طلاب يهرعون إلى السفارات فور نيلهم الشهادة ، تجذبهم وعود أحلامهم في زمن العولمة ، وتحبطهم خيباتهم من واقع السوق الشرسة. لأن المواطنية في رأيي لا تتوّقف عند حدود احترام القانون ، بل تتعدّاه إلى احترام حق الوطن الذي لا يكفله قانون أو دستور ، حق الوطن في أن يستردّ بعض ما قدّمه لنا ليقدّمه لأجيال تتبعنا.
كلمة "مواطنية" تحمل إلى نفسي حذراً من التحوّل إلى دافع ضرائب ، و تطلق العنان لحلمي في الترفّع عن كل انتماء عنصري، وأن تربطني بمؤسسات الدولة علاقة تحكمها القوانين، مستقلّة عن كلّ زعيم و حرّة من كلّ ارتهان. أن أكون طالباً جامعيّاً أتمتّع بحقوقي كمواطن، يعني بالنسبة لي أن أنتمي إلى جامعة لا تحكمها وساطة و لا ترسم شعاراتها عصبيات و لا تحدّد شعائرها طوائف. تستوقفني بعض المشاهد من الحياة الجامعية : عشرة طلاب يتكوّمون على مقعد واحد ثم ينهضون عن حطامه مقهقهين . عمود كهرباء يُكسر قبل مرور الأسبوع الأول من العام الدراسي في المباني الجامعية الجديدة في الحدث . جدار تغطّيه أثار الأحذية . طالب يسيل دمه من بطنه إثر طعنة من سكّين زميله في كافيتيريا الكلّية . عراك بين عشرات الطلاب يتجدّد كل أسبوع. طلاب يرفضون المرور بالمعابر عبر خطوط التماس القديمة على الطريق بين المنزل والجامعة. تلك مشاهد يمكن أن نصادفها في أي من جامعات لبنان ، حتى التي توصف بأنها الأرقى. كلّها مشاهد أراها مستقلّة تماماً عن احتلال الجنوب و اغتصاب فلسطين و الوجود السوري في لبنان ، و هي إلى ذلك، قد غُضّ الطرف عنها لأحد تلك الأسباب على ما قيل .
دور الجامعات في بناء المواطنية، يعني أن يكون للجامعة، إدارةً و طلاباً و أساتذةً، مساهمةٌ ما في بناء مواطنية ترقى بالفرد ليكون منتجاً في مجتمعه، وبالمجتمع ليحقّق تقدّماً نحو حياة نتساوى فيها أمام القانون ، متجاوزين العرقية والعصبيّة والطائفية. أمّا واقع دور الجامعات في بناء المواطنية فيبدو للبعض أنّه في حالة موت سريري فيما يبدو لي أليماً. دون أن أغفِل الكثير من الكامن نحو الأفضل . قد يسرع البعض لإلقاء التهمة في التقصير على الحكومة إدارات الجامعات و القييمين عليها ، و أنا لا أبرّئهم من تلك التهمة ، فأنا لا أفهم كيف يحقّ لجامعة ما، أن تمنع طلابها من انتخاب مجالس تمثيلية طلابية، أو التعبير عن آرائهم السياسية، أو انتماءاتهم الحزبية، وتلك حقوق كفلها الدستور. أيّ مواطنية نرتجي في مؤسسات تخرق الدستور بأنظمتها الخاصّة. كما لا أعقل كيف نتخلّى في مجالسنا التمثيلية ، حيث وُجِدت ، عن الحقوق التي اكتسبتها هذه المجالس عبر نضالات من مرّوا قبلنا ، و كيف نتخاذل في أداء المهمّات التي توجبها علينا الصفة التمثيلية من دفاع عن حقوق الطلاب و حفاظ على المؤسسة الجامعية و المطالبة بسياسة اقتصادية تكفل لنا توفّر فرص العمل بعد تخرّجنا، لأنه من المستحيل بناء مواطن صالح عاطل عن العمل أو مهدّدٍ بالبطالة .
في الجامعة نلتقي فنكتسب و نعيش و نتفاعل ، ككائنات إنسانية واعية مسؤولة قبل أن تنشأ بيننا أي علاقة أو مصلحة اقتصادية فردية . نلتقي بنفوس رحبة حافظت على الكثير من نقائها ، فتكون الأبواب مشرّعة و الآفاق مطلقة ، لكننا نلتقي على أرض فرزتها الانقسامات السابقة و قطّعتها خطوط التماس الممتدّة من زمن الحرب و الاقتتال ، فنجدنا سائرون كأنّما دون وعي إلى القعر الملوّث ، ونحلّ لأنفسنا ما أحلّت لهم نفوسهم زمن الحرب. لا أنظمة عامّة نتقيّد بها ، ولا اعتبارات معنوية نقيم لها وزناً . ندخل حرم جامعتنا صباحاً، مسلّحين بحساسيّات القياديين الموتورين ، يعمينا جهلهم ويدفعنا صلفهم، ونسير في الجامعة كما ساروا في أزقّة الفساد. هكذا تبدو الحياة الجامعية اليوم جزءً من الحياة العامّة في الوطن، تتناتشها العصبيّات و تغلّفها الشعارات المعولمة للثقافة الاستهلاكية، بدل أن تكون مثالاً رائداً، واعياً الواقع، مقاوماً للطاغي الفارغ، مثالاً ينطلق ليُعمّم.
الحياة الجامعية لا تنحصر بحدود جدارن و أحرام المباني الجامعية، بل تخرج منها لتنساب في المدينة كلّها، في الشوارع و الساحات و المسارح و الأحياء. يحمل الطلاب الجامعيون حياتهم في الجامعة لتحلّ حيثما حلّوا. فإذا حملوا من جامعاتهم مواطنية راقية رفعوا الوطن إلى مستوى الدولة الحديثة. لكننا نخرج اليوم حاملين احتقاننا أو تيهنا بوساطة أو تجاوز أو انتصار في معركة دامية، ننظر إلى ما يحيط بنا فنرى متاريس و دشم حرب شوارع أو اسطبلات و زرائب مزارع، و نخاطب الآخر كمن يخاطب عابراً يحمل الهوية الطائفية "غير المناسبة" على حاجز أقامته الطائفة "المناسبة"، وننساق خلف الراعي طلباً للماء و الكلأ.
لا أصف ما أراه في واقع الحياة الجامعية اليوم لأقول أن الساعة قد دنت ، بل لأقول أنني أرفض كلّ ذلك ، وأنني على قناعة أن تلك الحال لا يمكن أن تستمر. إنني على يقينٍ أن غداً لن يجتمع أكثر من خمسة طلاب لتحطيم المقعد، ولن يقهقهوا ، بل سيخجلون من النظرات المستنكرة . و البناء الجديد في الحدث ، قد لا يبقى جديداً لمدّة طويلة ، لكنّه سيحافظ على أعمدته الكهربائية كاملة. لن أرتعب من لون الدم في الكافيتيريا لأنها لن تكون سوى مكان نلتقي فيه لنعدّ نشرتنا الشهرية . لن تنشب عراكات بين الطلاب و لن أسمع صدى السباب والشتائم يرتدّ في الشارع لأننا سناتبع إصدار نشرتنا المتواضعة فعلاً ، لكنّها ستفرض الموضوعية على كل وسيلة إعلام . سنحرص على إجراء انتخابات طلابية ديمقراطية نرفض بعدها أي انتخابات أقلّ ديمقراطية . سننطلق في الشارع نطالب بكتاب تاريخ موحّد لأننا أدركنا هويّتنا وإن تاه عنها أمراء الحرب. سنقطع امتداد الميليشيوية في الجامعات فلا تجد ما يغذّيها ويجدّد سطوتها على مؤسسات الدولة. لن ننظر بحسرة إلى الطلاب يندفعون في باريس فيجبرون الحكومة على التراجع. لن ننظر إلى أبواب السفارت الحديدية المغلقة دون صفوف المواطنين الطويلة يتوسلّون الهجرة. سننظر إلى الواقع فنرى الممكن و ننطلق ببرامج حقيقية تحوّل خطابات أحزابنا إلى رؤية متكاملة لوطن يحلو العيش فيه.
آذار 2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق