الخميس، يوليو 23، 2015

بعلبك، أمكنة متحوّلة تحت الشمس.

بعلبك، أمكنة متحوّلة تحت الشمس.

المدخل والقلب والنزهة والتاريخ.

مدخل المدينة: حيّز وذاكرة

 السلسلتان الجبليتان تحتضنان السهل من جانبيه وتفسحان له المدى شمالاً ليتّصل بعمقه الطبيعي في سورية. تُثقل صدري وطأة امتداد شريط الأبنية الملاصقة للشارع، على طول الطريق إلى بعلبك. يختطف السهل نظري عبر الفجوات الصغيرة بين الأبنية. أحاول الابتعاد إلى الأفق كلّما تسلّلت عبر المجال فسحة غير مبنية، كاشفة بعض القرى.

 أمرّ بتلك الأبنية مستعجلاً الوصول إلى مدخل المدينة، لتطالعني أعمدتها الستة، فأطمئن لرؤيتها وأعرف أني صرتُ بين أهلي وناسي. لا أكاد ألمح العملاق ذي التيجان المزركشة، حتّى أنحرف بالسيارة يُمنة. أصعد التلة لألج الحيّ الذي كان ساكناً وادعاً ذات يوم، قبل أن يتحوّل إلى مدخل المدينة الصاخب، يُدخل إليها الناس كما الضوضاء والازدحام. المدخل الجنوبي الذي يربط المدينة الواقعة في طرف الوطن بالعاصمة، المركز المختزِل، المحتكِر والمحتكَر.
***
لم تعد زحمة السير في هذا الشارع محصورة بموعد دخول وخروج التلامذة من المدرسة هناك. لم تعد الطرقات الفرعية الصاعدة تصل إلى ما كان أكثر الأحياء هدوءً وحفاظاً على نسيجه القديم وانسيابه مع انحدار التلة، بل إلى حي شبه مهجور، "حي المسيحيين" في المدينة، التي راحت تخلو من مسيحييها.
       أمعن النظر في الأبواب فتطفو من تحت الصدأ ألوان الطلاء القديم. أكاد أرى ظلال الأبواب تتحرّك على الأرض، إذ أدخل خلف أحد أصدقاء الطفولة إلى منزله. أستعجل انتهاء أسئلة أهله وتحميلي السلام لأهلي. نبدأ لهونا في حديقة المنزل أو في إحدى غرفه ذات السقف المرتفع. أرى اليوم أحد الأركان المنهارة يكشف عن غرفة لم أدخلها. لا أعلم أين يسكن صديقي الآن. مضى دون أن يعلم، ربّما، أنه صار جزءً من هجرة وجزءً مفقوداً من ذاكرة.
 

قلب المدينة: ساحة السراي ورأس العين والقلعة

نزولاً إلى الشارع الذي يربط "القلعة" بمنتزه "رأس العين"، الازدحام يتلوّى مروراً "بساحة السراي"، ويتابع الاحتباس في كل شرايين السوق، ليكمل حلقته في شارع "عبد الحليم الحجّار" حيث ينفذ إلى الطريق الدولية المتجهة إلى الجنوب الغربي.
رداءة الطرقات ورداءة البناء، متلازمتان ظاهرتان عبر شوارع بعلبك. بؤس يلفّ المدينة، بفقرها المدقع، وبثراء بعض بيوتها؛ القديمة التي تبوح بأزمنة ازدهار أفلت مع ساكنيها، والمتفاخرة المتعالية التي تحدّث بنعمة مالكيها الطارئة.
***
ألتفّ في الطريق الصاعدة بهدوء نحو بناء يعود لما يقارب المئة العام. هكذا تنفتح "ساحة السراي" عن مجالٍ يهيمن عليه من الجنوب الشرقي بناء أبيض من عهد الانتداب الفرنسي، "السراي"، يضمّ الدوائر الرسمية لقضاء بعلبك، فترتبط به أحوال سكان المدينة وقراها. تنعقد عنده الطرقات القادمة من الأحياء السكنية شرقاً وشمالاً، ومن السوق جنوباً وغرباً. حركة السيارات محكومة بدوار لا يخفّف حدّته سوى جنح الظلام. "ساحة السراي"، قلب المدينة الفعليّ، تنطلق منها كل دورات الحياة في بعلبك. تبيع بعض النسوة نتاجهن الزراعي صباحاً في الزوايا، فيما تنتشر حول الساحة متاجر مختلفة ومقاه ومطاعم شعبية. بعض المكاتب المرتبطة بدوائر "السراي" تتمركز في الطابق الأرضي للبناء القديم، المطلّ بقناطره الثلاث شمال شرق الساحة. شمالاً تمتدّ طريق تربط الساحة بشارع "بشارة الخوري" الذي يخترق المدينة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، بموازاة الشارع الذي يربط "القلعة" بمنتزه "رأس العين". يمتدّ طريق شمال غرب الساحة ليصل إلى دار البلدية، ويتابع متعرّجاً داخل الأسواق الشعبية، مخترقاً بعض الأحياء السكنية حيناً ومحاذياً لها حيناً آخر، إلى أن يصل إلى "الجامع الأموي" شرقي "القلعة". تنحدر طريق أخرى جنوب غرب الساحة عبر "سوق الخضار" المكتظّ، حيث يرتفع بناء متعدد الطبقات يرزح تحت ظله السوق بكامله. تتفرّع ساحة جانبية في الشمال الشرقي، بمحاذاة مبنى "السراي"، تمتدّ منها طرقات فرعية تتغلغل في الأحياء السكنية وتتشعب، وطرقات أخرى تلتفّ جنوباً وتتسرّب باتجاه طريق "رأس العين".

       يجول نظري في "ساحة السراي" خلال ساعات النهار بكلّ الاتجاهات، فلا يقع إلا على سيارات عالقة في الازدحام أو مركونة في الأطراف. لكن حين تخبو حركة المحركات في ساعات النهار الأخيرة، تظهر ملامح الساحة مشبعة بتاريخ المدينة، حيث انصهرت كل أحداثه وتغيّرت كل أحواله. أمام السراي التي بناها الانتداب، قاوم الناس المستعمر، وعلى جدرانها، وتحت عيون حرّاسه علّقوا جرأتهم مناشير تندّد به. اجتمعوا واحتجّوا وتحلّقوا وتفرّقوا، قاتلوا ونالوا. بين المتاجر والمساكن، في الساحة والطرقات المتشابكة حولها نسجوا حياتهم، وراكموا تناقضاتهم، وخبّؤوا ذكرياتهم في كل "دروة" لا تطالها الريح فتنثرها.
***
تنطلق المسارات من "ساحة السراي". جانِبا الطريق إلى "رأس العين" أصبحا حليقين منذ ما يقارب العشرين عاماً. اختفى المنحدر الذي كان يتهادى من الشارع نزولاً إلى النهر، قُطِعت الأشجار الضخمة التي كانت تحضن الطريق بأغصانها الممتدّة كنفقٍ أخضر. أشجارٌ كانت تثير فينا ميلاً للتباطؤ بالسير تحت ظلالها، ودفئاً حين تتكسّر تحت أقدامنا أوراق الخريف. تحوّل النهر إلى مجرىً اسمنتيّ عميق، تسدّه النفايات فتُكرِه المياه الشحيحة على الزحف تحتها. تتزاحم السيارات في الشوارع بحثاً عن مقهى، أو عن فسحة يستعرض فيها سائق شاب قدراته البهلوانية، فيما ينسحب "الخوّام" بين أشجاره العتيقة من كلّ ما يدور حوله. لم يستطع الوزير السابق البعلبكيّ، أن يُعمِل منشار وزارة الأشغال بأشجار المنتزه قطعاً كما فعل بأشجار الطريق المعمّرات.
 
 ***
يبدأ النشاط في "رأس العين" قبل شروق الشمس مع عدد من سكان المدينة، يستهلّون نهارهم بالمشي أو الركض أو ركوب الدراجة الهوائية. يتحوّل المنتزه والطرقات حوله، إلى نادٍ رياضيٍّ كبير في الهواء الطّلق. تُنسَج الكثير من العلاقات المرتبطة بالمكان. تبدأ بسباق يرتجله أطفال على دراجاتهم الهوائية، أو بشربة ماء، أو بسلام يلقيه أحدهم على وجه يلتقيه كلّ صباح.  ينتهي النشاط الرياضيّ في المنطقة مع بزوغ الشمس لتبدأ دورة التنزه بين المرجة والمقاهي.
يمرّ من هنا كلّ الناس، يمكن أن تصادف أي بعلبكيّ دون استثناء، لا أحد يغيب عن "رأس العين" أسبوعاً كاملاً. يزدهر المنتزه في أيّام الفُرص ويزدحم أيّام الأعياد، يزحف إليه الناس من كل القرى فيعجّ بهم. بين "رأس العين" و"ساحة السراي" حبل سريّ. إنّهما يختزنان حياة المدينة وذاكرتها، ويضمران في وعيهما كل ما يحمل الزمن الآتي.
الطواف حول المنتزه وحول "بركة البيّاضة" منسكٌ من مناسك الحياة في بعلبك. لا يكون العشق بعلبكيّاً إذا لم يحفظ خارطة المكان. "البيّاضة" و"الخوّام" و"مسجد رأس الحسين" و"مفرق عمشكة" و"مفرق العسيرة"، هذه أجزاء الموقع. سعينا بينها فتملّكْنا المكان. شَعَرْنا أنّنا أعطيناه نكهتنا الخاصّة، حتى صار باحةً مشتركةً لمنازلنا.
 
 
تتنوّع المقاهي حسب الجو العام السائد فيها؛ منها "العائليّة" ومنها "الشبابيّة"، ومنها المخصّصة لكبار السن، حيث الكراسي الخشبية القديمة وألعاب "الورق" التي تمتدّ حتى منتصف الليل. منها المطلّة على الشارع، ومنها التي تحوي زوايا مستورة عن نظر المارّة. منها التي يتغيّر اسمها مع كل موسم، ومنها ما لا يتغيّر اسمها على ألسنة روّادها مهما تغيّر الاسم المكتوب على مدخلها، ومنها ما يُسمّى بكنية مالكها. أبرزها تلك التي تقدّم مشروبات كحولية دون أن تذكرها في لائحة المشروبات.
يفضّل بعض الشبان ابتكار جلسة خاصة على ضفة "بركة البيّاضة"، أو في سيارة مركونة على طرف الشارع. لكن "المرجة" تجذب العدد الأكبر من الناس، دون أن تتقاضى أجراً أو ثمناً. تمتدّ عليها البُسُط، وتُحضّر المأكولات، وتطول الجلسات.
***
"رأس العين" في طرف بعلبك المقابل "للقلعة"، تماماً عند سفح السلسلة الشرقية، دائرة تزخر بالمقاهي، قاب قوسين أو أدنى من الموقع الأثري السياحي العالمي، مكان يخلو من السواح. هنا يترفّه البعلبكي على مزاجه، لا يسمع لغات أجنبية، ولا يرى عيوناً مدهوشة، ولا وجوهاً احمرّت لشدّة الشمس. لا يصل شيء من بهرجة "مهرجانات بعلبك الدولية" إلى هنا. أوجدت المدينة مكاناً ليتنفّس أهلها، وحفظته مصوناً رغم الكثير من الأعمال الرعناء التي طاولته، من قطع الأشجار وتشويه النهر إلى زرع المرجة بكتل إسمنتية كروية ضخمة، وأعمدة إضاءة مخصصة للشوارع. كلها لم تنل منه حتى اليوم.
تتواصل الحركة حتى منتصف الليل تقريباً أيّام الصيف، تنشط كلّما انخفضت الحرارة، وتتحوّل إلى بعلبكية صرف في ساعات الليل، إذ يغادر سكان القرى ويستأثر سكان المدينة بالمكان. دفء الصيف يعزّزه دفء زيارة أبناء المدينة المغتربين، والنازحين إلى العاصمة. يعاينون ما تبدّل من أحوال، ويحاولون التمسّك بما دأبوا عليه قبل ابتعادهم. أجوب الطرقات متنقّلاً بين مواقع اللقاءات القديمة، أصطاد بعض الأصدقاء، ثم أعيا فأكمن في موقع، بانتظار صديق يتجوّل في المكان.
أما الشتاء في بعلبك فله هيبة وجلال. البرد القارس يُرغم الناس على التزام منازلهم، فلا ترى في رأس العين إلا قلّة ممن لا يستقيم نهارهم إلا بزيارته، أو من بعض من يغريهم الغطاء الأبيض أيام الثلج. أكثر ما أبهرني ثلج ذات ليلة بدت المدينة معه فضّية كأن البدر أضاءها. مياه النهر تتصاعد بخاراً كثيفاً من شدّة البرد. الشوارع في سكون تامّ لم يَشُبْه سوى سلامٌ ألقاه مارٌّ على والدي ليؤنسنا.
***
أتوجّه إلى "القلعة"، يواجهني جنبها جداراً أصمّا. بالكاد تظهر الأعمدة الستة بعيدة، الغبار الصاعد من أتربة الشارع يغشّي الرؤية. الجدار المرتفع يحاول ثنيي عن التقدم، هذا الجزء من المدينة مخصّص للسوّاح، لا شأن به للذي لا يندهش لضخامته ولا يسترزق من زوّاره. أقترب من "القلعة" مكابراً. أشعر بالاغتراب مع كل خطوة وسط باعة السبحات والكوفيات الذين يصرّون عليّ لأشتري، رغم شكري لهم بلهجة بعلبكية واضحة. الداخل إلى "القلعة"، عليه أن يلتفّ حول جدرانها في ممرٍّ مستحدثٍ ملتوٍ متعرّجٍ، كأنه يدخل الى حمام مطعم أخفاه المصمّم بخفر شديد، إلا أنه لا يستطيع أن يخفي المعابد العملاقة التي يفضي إليها.
ما زلت أحبّ تسلّق الأحجار العالية في "القلعة"، وأدمن الدوار الذي يصيبني حين أقف عند أقدام الأعمدة الستّة، وأرفع ناظريّ إلى تيجانها. الشمس الحادّة أيام الصيف، والحذر الشديد مخافة الانزلاق أيام الثلج. تبقى أجراس الأفيون المنقوشة، منذ أكثر من ألفي عام، عند مدخل معبد "باخوس"، أكثر ما يُشعرني بأن المعابد تخصّ بعلبك بالذات.
* * *


أسير في طريق جانبية حول "القلعة"، التي تبدو طفلة حالمة حين أنظر إليها مباشرة من محورها القديم. تفتح باحاتها للقادم من الشرق عبر درج عريض، فتنساب الفضاءات المتتالية وصولاً إلى معبد "جوبيتير". ألج الطريق حيث "ثكنة غورو"، التي تحوي فقراً مدقعاً يختبئ في جيب بؤس محبوك بثوب الفاقة، يحاكي جيباً آخر هو "مخيّم الجليل الفلسطيني" جنوب غرب المدينة. تمرّ الطريق جنوب غرب الثكنة القديمة ثم إلى شمال الغرب قرب "قبّة السعيدين"، أو "السعادين" كما يسمّونها، في قيظ وغبار الصيف كما في صقيع ووحول الشتاء. قلّما تصادف أحداً على هذه الطريق الموحشة. تمتدّ على طولها واجهة الثكنة الفرنسية القديمة، وقد سُدّت نوافذها بلبنات اسمنتية، تذكّر بنوافذ بنايات بيروت أيام الحرب. تتابع الطريق تقدّمها قرب مدخل أثريّ في السور القديم، غمره التراب، لا يظهر منه إلا متراً أو أقلّ. كل ذلك وسط نفايات متراكمة تحاصر الثكنة، وتعزل سكانها عن خضرة "البساتين" والفتها.
 
 
أيمّم وجهي شمالاً. السهل الممتدّ إلى الأفق يثير فيّ رغبة لإتّباعه ساكناً مطمئنّا. كأنّما أحد ينتظر رجوعي، أو كأنني أتيتُ من تلك الناحية من الأرض، فوصلتُ إلى بعلبك دون مشقّة عبور الجبل. تتلاشى المدينة تحت الظلال الطويلة ساعة الغروب. تمتدّ بضعة قرى على السهل، فيما تتسّلق قرى أخرى سفح السلسلة الغربية بخفر. بيوت منثورة تنتشر صعوداً. يصفو الجرد بعدها من أيّ عمران. أنظر إلى بعض الثلوج الصامدة حتى شهر تموز في أعالي الجبال، ترتسم القمم فوقها. خطٌّ واضحٌ يفصل السماء عن الأرض. سكونٌ لا يشوبه شيء من ضوضاء سفح المقلب الآخر، والساحل خلفه.