الثلاثاء، ديسمبر 16، 2008

أن تصوّر في بيروت

حين وصلت سيارة قوى الأمن وترجّل عناصرها بدا لي المشهد أشبه ما يكون بفيلم أميركيّ من النوع الرخيص، لكن حين وضعوا يديّ في الأغلال المعدنية ووضّبوني في السيارة الرباعية الدفع تحوّل المشهد إلى فعل رخيص. مع أن آلة التصوير في يدي لم تتوجّه إلى ما يمكن أن يكون تصويره خرقاً أو تهديداً للأمن، إلا أن الغيرة على أمن المجتمع المسيحي أوجبت على أولئك الغيارى توقيفي والتحقيق معي في محطّة الوقود التي يملكها أو يديرها غيورٌ منهم. هم في هذا إنّما يؤازرون أجهزة الدولة ومؤسّساتها وليسوا بأي شكل من الأشكال دولة داخل الدولة، هم وإن لجؤوا إلى القوّة ليستضيفوني في مكتب إدارة المحطّة، لم يلجؤا إلى استعمال السلاح، لا الناريّ منه ولا الأبيض، وهم إلى ذلك قد أظهروا أخلاقاً رفيعة حين سمحوا لي أن أتّصل بالأمن الداخليّ بعد تأكّدهم من جنسيّتي اللبنانيّة. لكن قوى الأمن الداخلي الذين استنجدتُ بهم قرروا توقيفي أنا، مع أنهم هم من قطعوا الطريق وخرقوا حقّي بتصوير الشارع.

هذا المشهد تحوّل إلى ظاهرة خارقة للطبيعة مع تفاصيل توقيفي في نظارة المخفر والتحقيق معي عن أصلي وفصلي والدوافع الكامنة وراء فعل التصوير والنوايا المبيّتة خلف أسباب اختيار هذا الشارع والالتباسات المريبة المحيطة بالحادث.

لست صحفياً، بل طالب هندسة معمارية في الجامعة اللبنانية، أجول شوارع البلد وزواريبه مصوّراً ناسه ومبانيه، وأرصد عفواً تفاوت ردّة فعل الناس تجاه التصوير في مختلف المناطق ومختلف الظروف السياسية والأمنية. أمّا التصوير في بيروت فأغرب ما فيه تشابه ردّة الفعل لدى مختلف الأطراف. في منطقة السوليدير كما في محيط مباني "المستقبل" عناصر شركات الأمن الخاصة سيمنعونك من تصوير إعلان على أحد الجدران، حتى لو كنتَ واقفاً على الرصيف، الملك العام، طبعاً، إذا عصيتَ أوامرهم سيطلبون مساعدة قوى الأمن الذين بدورهم سيطلبون منك، بكلّ حزم، الامتثال لأوامر عناصر الأمن الخاص. تتكرّر المسرحية الأمنية في كل الشوارع وإن تنوّع المانعون بين أصحاب محالّ تجارية، او شباب الحيّ، أو بعض الحيوانات الشاردة في شوارع العاصمة. للتصوير قرب أحد المباني الحكومية نكهة خاصة، إذ سيمنعك عناصر الأمن الداخلي مباشرة دون الحاجة للمرور في مرحلة الأمن الخاص أو الأمن الشعبي.

هل منع التصوير إجراء أمنيّ؟ هل منع التصوير يحمي وجوهاً لزعران حفظناها إن حليقة أو ملتحية؟ هل منع التصوير يخفي عن الكاميرا شيئاً لم تكشفه الأقمار الاصطناعية؟ هل منع التصوير يحافظ على أمن موقع عسكريّ أو مبنى رسميّ بادٍ للعيان وخاضع لذاكرة إرهابيّ يخطّط لهجوم ما؟

أشعر بجزل حين أنظر إلى بعض الصور التي التقطتها في ضاحية بيروت الجنوبية وفي بعلبك قبل أن تدمّرها الطائرات والبوارج الاسرائيلية خلال حرب تموز 2006 ، وأقسم أني لم أرسل صورةً لأي جهة اسرائيلية أو عدوّة أو صديقة، وأقسم أنّي لم أنشر شيئاً من تلك الصور على الانترنيت. منع التصوير لم يشفع بشخص تعرّض للاغتيال ولا ببناء تعرّض للقصف ولا سيارة تمّ تفجيرها. فيما أنا شارد بأفكاري هذه على رصيف الروشة، ألمح عصفوراً على شرفة أحد المباني، أوجّه آلة التصوير شطره فيخرج شبّان مغطّسون بالسواد من شبابيك سيّارتين عالقتين في زحمة السير "ما تصوّر .... سعادته، صوّر بعدما نمرق..." طبعاً طار العصفور قبل ما سعادته يزمط من العجقة بسبب الحفريات.

أشكر باري الكون الذي جعل الشمس تغيب ببطء خلف البحر ومكّنني من تصويرها بعد أن يمرّ كل الذين يخشون الذيول الأمنية للتصوير، وأشكر صيّادي السمك لتركيزهم على القصبة والطعم وانشغالهم عن الخطر المحدق بهم من آلة التصوير في يدي، وأشكر عناصر الأمن الخاص في مبنى "فردان 730" الذين نبّهوني إلى أن حقّي ينتهي عند حدود خصوصية المتسوّقين في ذلك المركز التجاري.



ليست هناك تعليقات: