الثلاثاء، أكتوبر 16، 2012

معالم الأرض هيكل المدينة

قال لي ابو رأفت (ناطور الورشة الخمسيني الطيب القلب): نظرت إلى أرض جيراننا، الله أعلم تبلغ مساحتها اربع دنمات (مستعملا الدنم في تعبيره التلقائي الذي يعكس خلفيته كمزارع)، تابع قائلا: هل طمروها ورفعوها؟ هي أعلى من أرضنا، يقصد العقار التي تقوم عليه ورشة البناء التي يحرسها، كيف جعلوها بهذا الارتفاع؟؟
أجبته: ماذا في الأمر؟ الأرض هنا كانت منحدرة، هي جزء من تلة الأشرفية، والطريق ما زالت منحدرة كما ترى لكن الأراضي سويت بما يناسب الأبنية. طبعا لم يعد بالإمكان أن ترى التلة ولا أن تجدها حتى لو بحثت، فهي قد أزيلت ولم يبق منها سوى الشوارع المنحدرة.
فضحك ونظر إلى السقف قائلا: نعم، الآن فهمت، ما تقوله يبدو منطقيا ان كانت هذه الأرض التي يسمونها الأشرفية تلة.
تذكرت ما كتب إيطالو كالفينو في كتابه المدن الخفية عن مدينتين تمددتا حتى التقيتا وتداخلتا فأزالتا المراعي بينهما، وكيف التقى الرحالة الذي دخل المدينة ولم يجد طريقه للخروج منها، التقى براعي غنم فسأله في أي مدينة نحن؟ فأجابه الراعي: ان اغنامي تعرف الطعم ، هذا مرعى كذا

الأحد، أبريل 15، 2012

شريط شائك على الشريط البحري

بعد ان باءت كل المحاولات بالفشل، يبدو أن بلدية بيروت وجدت الحل الناجع لأولئك المارّة الهمجيون الذين يدوسون الشريط الأخضر في وسط الجادات العريضة. شعرت انني ثأرت لكل نبتة داسها همجيّ في المدينة حين رأيت الأسلاك الشائكة تمتدّ وسط الجادات فوق الشريط الأخضر فتجبر من يريد عبور الشارع أن يمرّ في المكان المخصّص. بهذه الطريقة المبدعة وجدت بلدية بيروت الحلّ، فالآن سيعاني كل من يتعدّى على خضرة المدينة من عقاب السلك الشائك، ستتمزق أيديهم وأرجلهم وتُسلخ جلودهم أحياء ان حاولوا تقصيف النبتات، شباناً كانوا أم شيبا أم أطفالاً، ان أتوا منكرهم نهاراً أم ليلاً سيعاقبون على الملأ ومباشرة دون تمهيل. ان الله شديد العقاب.




الجمعة، مارس 02، 2012

واقع الهلال والصليب










واقع الهلال فوق المئذنة والصليب فوق برج الجرس لا يشبه بشيء صورة التعايش والتآخي التي توحي بهما.

في وسط بيروت، وبعد صراع مرير وفضائحي مع الراحل رفيق الحريري، تم تشييد مسجد محمد الامين الثقيل الوزن والظل ساحقا محيطه ضمن دائرة يمتد قطرها مئات الامتار. أولى الضحايا كانت الاقرب اليه، الكنيسة المجاورة صارت قزما بعد أن كانت معلما لما يزيد عن قرن من الزمن. حين شُيّد المسجد المذكور ارتفعت قبّـته بمستوى برجي الكنيسة ثم علت مآذنه الأربعة السمجة فوق ذلك عشرات الأمتار بغطرسة وقحة ورعناء. اعتقد الراحل الحريري يومها أنه يوجّه رسالة قوية لأهل بيروت، ربما قصد أهل السنة، أن ها أنا عكس ما روّجوا أنني أعرقل تشييد المسجد، أبنيه لكم يسحق كل الآخرين لأنكم أسياد الساحة بلا منافس وأسياد المدينة وأسياد البلاد بأسرها، هكذا في لحظة طيش اعتقد أنهم سيسيرون خلفه كالنعاج وأن دهرا من القراءة لم يخلق فيهم شيئا من الوعي. ارتفعت تلك المآذن السمجة لتسحق الكنسية التي كانت معلم المكان كما اعتاد أن يسحق المعالم كما يسحق القمل بأظافره. لكن بعد رحيله ظهر ما كان قد استثاره في أهل تلك الكنيسة فانطلقوا في برج لكنيستهم يسابق المآذن لاختراق قبة السماء الوادعة.

صورة الصليب والهلال متقاربين ستعكس للمرة الأولى كل غطرسة وبلاهة الواقع. لأول مرة سينظر اليهما المارّة وهم يقولون أن كذا الواقع، ليس الصورة تصوّراً أحمقاً عن عيش مشترك، بل تظهير حقيقي لصورة البشاعة في الكره والحقد الدفين.


الأحد، ديسمبر 25، 2011

فوج اطفاء بيروت



مررت مساء قرب مركز فوج الإطفاء في بيروت قرب الملعب البلديّ، كان رنين جرس متحشرج ينطلق من المركز محاولا إنذار عناصر الفوج أن ثمة حريق في المدينة. التفتّ إلى الدرج المكشوف حيث كان بضعة رجال ينزلون بخطى متثاقلة وهم يرتدون ستراتهم ويكملون حديثاً بدأوه قبل انطلاق جرس الانذار.
لم يشبهوا بشيء أولئك الرجال الذين أراهم في الافلام الوثائقية على محطات تلفزيون الواقع التي تنقل وقائع مكافحة الحرائق في اميركا واوروبا و استراليا. الرجال الذين ينطلقون بسرعة وزخم واندفاع. بدا لي رجال فوج الاطفاء كأنما أطفأهم جرس الانذار المختنق، أو أنهم خنقوه لأنهم لا يملكون أن يطفؤوه.
ركب الرجال آليتين من الآليان المركونة. رأيتهم يقهقهون ويتبادلون النكات في إحداها، وقد كان أحد العناصر يجلس قرب السائق بقميصه الداخليّ ويمسك سترته في يده، سيرتديها في الطريق.
بعد أن بذل عنصر آخر جهدا فائقا ليفتح البوابة الحديدية أمام سيارة الاطفاء، انطلق الصهريج الأحمر وطلقاً صفيراً مدوياً لم يساعده ليفتح الطريق أمامه فأحد المواطنين كان يسدّ عليه الطريق بسيارته محاولا ركنها في مساحة صغيرة تبدو جنة لركن السيارة في بيروت. لم يتوقف عويل الصهريج الأحمر. بعد أن صار الطريق سالكاً اندفع في الشارع ولفح وجهي برياح إذ كان يشق الهواء أمامه وبقيت أحاول التذكر إن كنت لمحتُ أحد العناصر يدخن سيجارة أم انه قد خُيّل إلي.

السبت، أغسطس 20، 2011

ليمعن في استخفافه، أتحفنا نجدت أنزور في حلقة اليوم من "في حضرة الغياب" بمشهد في مقهى بيروتي في السبعينات تعلو أحد جدرانه صورة فيروز من ألبومها الأخير "إيه في أمل"، يا للإتقان!!

الجمعة، أغسطس 19، 2011

محمود درويش، بكامل غيابه

منذ توفّي محمود درويش تناوله الكثيرون بأعمال وأساليب مختلفة، معظمها كان بائسا، فأنا لم أرَ منها شيئا جدّيا سوى القصيدة التي كتبها تميم البرغوثي في ذكرى رحيله. لكنني منّيتُ النفس بعمل يستحقّ التقدير حين قرأت أن المخرج نجدت اسماعيل أنزور يحضّر لمسلسل يتناول حياة الشاعر، وصرتُ بانتظار رمضان لأشاهد العمل. وأتى رمضان لأكتشف أني كنت بانتظار خيبة أمل.

"في حضرة الغياب" يبدو عنوانا بديهيا للمسلسل، بديهيا إلى حدّ اعتقدتُ أنه اختير على عجلة لكسب الوقت والتركيز على العمل في الفترة القصيرة نسبياً لعمل من هذا النوع كما قيل، فماذا في العمل؟

يبدأ المسلسل من حيث تبدأ رحلة نهاية محمود درويش، يبدأ بحالة من التفجّع المستمر وقصة حب سقيمة مع "رهف"، فتلوح بشائر التردّي من الحلقة الأولى. محمود في شرود أبله بسبب الأخبار الطبية السيئة، "رهف" في دلع وانشداه وطبيب يلاحق رهف بمراهقة سمجة، وقصة الافلام العربية اياها، لا يوجد اثنان يتبادلان الحب، كلٌّ يحب من لا يحبه، وعقد لا تنتهي وخفايا يمكن ان تتوضّح بكلمة واحدة لكن أحداً لا ينطقها.

يغفو محمود في الطائرة فننتقل إلى طفولته بأسلوب مستهلك. تطول حقبة الطفولة عدة حلقات حتى خلت أن لا شيء يستحق الذكر في حياة درويش فقرر الكاتب والمخرج أن يحشوا ما أمكنهما من حلقات في الطفولة.

يختفي محمود الطفل ليظهر وقد اكتملت رجولته وانخرط في العمل السياسي والكتابة وصار معروفا وله دائرة أصدقاء من الشعراء والمثقفين دون أن نرى شيئا من شبابه الأول ومراهقته، ربما لأن الطفولة احتلت الوقت أو أن تلك الحقبة من حياة الشاعر جزء من سرّ مكتوم.

الكل حول محمود يرددون قصائده كطلاب "يسمّعون" الدرس "كرجة مي" ومحمود في انشداه وذهول دائمين، كأنما تسيطر عليه حالة صدمة دائمة. وبالطبع هناك "ريتا" التي لا شغل لها سوى أن تلتقي بمحمود وهي في هيام رومنسي ومجابهة ابن عمها "شلومو" الحقير العنصري ذات الشخصية الصبيانية، والذي يطاردها بصفاقة وجهل مطبقين مع أنه ذا رتبة في الموساد كما أشار المسلسل. ثم نراه فيما بعد يقوم بتنفيذ اغتيال غسان كنفاني في تطوير درامي رهيب يؤكّد حقارته وخسّته. محمود يُسجن ويخرج من السجن ويكتب قصائد ويلتقي ريتا، هذا كل ما يمكننا أن نراه، ولا أحد يحتاج المسلسل ليعرف هذا عن محمود.

ينتقل محمود إلى موسكو فنكتشف أنه نسونجي، ثم إلى مصر، نسونجي أيضأ، وشخصيته ما تزال هزيلة ركيكة ولا يظهر شيئاً من حياة درويش سوى غرامياته وعلاقته بمشاهير العرب ومثقفيهم، ودروس التسميع مستمرة. ثم يترك مصر ويتركنا في ظمأ لحياته في مصر، لكن التطور الدرامي واضح، صرنا نعلم من هي رهف ومن أين أتت! هي على ما يبدو ابنة نجلاء، مغامرته المصرية، التي أنقذ حياتها، يا للدراما.

تمهيداً للانتقال المفاجئ إلى بيروت يتحفنا المخرج ببعض التمثيل المفتعل على الطريقة اللبنانية، فنرى مثلا درويش يلتفت كأنه تلقّى صفعة حين يرنّ الهاتف، ثم نكتشف ما يبرّر هذا الانفعال بأهمية المخابرة الهاتفية ونفهم أنه "قلبه حسه هالتلفون مش لخير" .من جهة أخرى، ومداراة ربما للقيم المجتمعية وتغيّر العصر، يحرص المخرج على تستير سيقان الممثلات اللاتي يرتدين "الميبني جوب"، أي التنورة القصيرة الدارجة أيام السبعينات، فيرسل من تحت التنانير سراويل لاصقة ملونة بألوان "فاقعة" في مشهد هزلي.

انتهت حلقة الليلة من المسلسل بنفس درجة الميوعة الدرامية، وهذا كله غيض من فيض. يذكرني العمل بالمسلس الكارثي الذي تناول حياة نزار قباني وبالمسرحية الرحبانية المهزلة التي تناولت حياة أبو الطيب المتنبي. إيه محمود درويش، سأنتظر غيابك الليلة القادمة.

الأحد، فبراير 13، 2011

لا ثورة في بيروت

هل سياتي دور الحريري وبري وجنبلاط و الجميل وجعج ومن لف لفيفهم لمحاكمتهم على سرقة المال العام من اجل استعادة هذا المال ام سيستمر الكلام عن هدر المال العام كانه ذهب الى البحر وليس الى جيوبهم؟ وهل سيستمر الحزب الشيوعي اللبناني بالبحث عن مخارج مسرحية لازمات النظام ام انه سيعود الى موقعه الثوري التقدمي؟ الم ير هذا الحزب، فيما يتشدق بالحديث عن السلطة بشقيها، انه هو الاخر صار جزءا من النظام اللبناني الطائفي الفاسد؟
الا يرى الحزب الشيوعي اللبناني انه صار الجزء الاكثر ميوعة وبلادة في هذا النظام؟ هل يدرك الشباب اللبناني ان بامكانه ان يطلق التغيير في البلد رغما عن انف المتمسكين بكراسيهم وثرواتهم ورغما عن انف القابعين في ميوعتهم واوهامهم؟
هل سنتظاهر في بيروت من اجل نسف الدستور والطائف؟

الجمعة، ديسمبر 17، 2010

الجمعة، أبريل 16، 2010

مهدي عامل وهويتنا الفكرية

لماذا الهوية الفكرية؟

نعاني، في عصر اضمحلال اليسار في الوطن العربي، بالرغم من إشارات انتعاشه في أماكن كثيرة في العالم، من التباس المفاهيم والقيم والأهداف، وضبابية الجبهات الأكثر سخونة، أسأل كآخرين، أين يبدأ الحل؟ أو بطموح أقلّ، كيف يبدأ البحث عن حلّ؟

القناعة الراسخة بأن التحرّر من التبعيّة يؤدّي إلى حياة أفضل تقودني إلى البحث عن منهج عمل أكثر ارتباطاً بهذا المجتمع، بكليّته وبتفاصيله.

في مجتمع تابع، لاهث لتأكيد تبعيّته للمركز الباهر تبدو المهمّة بالغة الصعوبة. مجتمع اعتاد انتاج فكر لا يسعى إلا إلى إسقاط نظريات واردة من خارجه تأكيداً على تبعيّته وانبطاحه الكامل أمام المركز. التحرّر من هذه التبعية يصبح ممكناً إذا توافر الفكر القادر على فهم المجتمع والإضاءة على النقاط التي يمكن تنميتها من أجل دفعه إلى التطوّر والتحرّر، و الفكر القادر على تحديد الخطى الممكنة عملياً من أجل التقدّم وزرع أسباب الممانعة والمقاومة.

يأتي مهدي عامل جزءاً من حركة فكرية تحرّرية حاولت أن تغذّي بذور الفكر المادي في العالم العربي لتقدّم نموذجاً نظرياً وعملياً يمكن أن يتجذّر ويتعمّق في مجتمع تنخر هيكله الأحكام الغيبية والأحلام العقيمة والتبعيات الهدّامة.

اليوم، مَن يقرأ مهدي عامل فكراً وشعراً؟ يلحّ عليّ سؤال آخر، من قرأ مهدي عامل يوم كان يسير على وجه الأرض؟ يوم كان يلقي محاضراته في قاعات معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، القاعات التي كانت تغصّ بالطلاب المتلهفين لسماعه؟ من قرأ مهدي عامل من جيل الحرب ومن جيل ما بعد الحرب؟ قلّة ضئيلة دون شك. قد يكون مفيداً أن نسأل عن الأسباب وأن نسأل أين تكمن الفائدة حقّاً من قراءة مهدي عامل. لكنني لستُ في هذا الصدد ولستُ الشخص المناسب للإجابة عن هذا السؤال.

أسأل مَن مِن أبناء جيلي قرأ مهدي؟ أسأل ما هي هويّتنا الفكرية والسياسية نحن "أولاد اليوم"؟ ما هي مكوّنات ثقافتنا وكيف اكتسبناها؟ كيف تكون لنا هوية وقد تاهت ثقافتنا والتبست انتماءاتنا وبلغ الشك منّا مبلغ الشكّ في أوضح المسائل وأكثر الحقائق سطوعا. هل يمكن لمجتمع مُسِحت معالمه وسقطت أسباب مناعته أن يُنتج فكراً حُرّاً يهيّء السبيل لغدٍ أفضل؟ تبدو الصورة قاتمةً لاريب. لكن ما دام هذا المجتمع موجود فإن إمكانية تحرّره كامنة فيه بالضرورة، وتأكيد حضور ما تبقّى من ملامح هويّتننا وتطويرها يأتي بالضرورة في اتجاه انعتاقنا من التبعية.

أمرّ على إحدى مساهمات مهدي الكثيرة بوثائق حزبه، الحزب الشيوعي اللبناني، فألمس انتماءه إلى ذلك المشروع وانخراطه فيه انطلاقاً من مختلف المواقع التي كان فاعلاً فيها. مشروع مهدي تعرّض لقطع عنيف كما تعرّضت ثقافتنا، في مسيرة تطوّرها وتقدّمها، لعمليات قطع مشابهة متتالية ليست آخرها الحرب الأهلية. ما قام به مهدي كان استكمالاً لعملية فكرية بدأت قبله، نظر إلى بذور الفكر المادي في المجتمع العربي منذ ابن خلدون فحلّلها وحقّق فيها واستخلص منها ما يمكن أن يؤسّس لهوية فكرية عربية ماركسية. في رأيه "لاوجود لفكر ماركسي نظامي في الفكر العربي إلا فيما ندر"، لكنه موجود وحاضر في ممارسات الحركة الشيوعية العربية، فيما هو صحيح وغير صحيح في خطّها السياسي، وبإمكاننا استخراج هذا الفكر الماركسي إذا نظرنا نظرة نقدية إلى تلك الممارسات. غاص مهدي في جدالات فكرية وسياسية مع معاصريه، من إدوار سعيد حتى جوزيف سماحة، ربما بلهجة جامحة في بعض المواقع. لكنه سعى دائما إلى نظرية أصيلة تبتعد عن الاسقاطات السطحية، وإن لجأ دون مواربة إلى الاستعانة، والاقتباس في أحيان كثيرة، بنتاج فكر مجتمعاتٍ مختلفة عن المجتمع العربي، غير أنّه استعمل الأدوات المنهجية بوعي وإدراك عاليين لماهيّة الأداة وأساليب استعمالها، وبإدراك عميق لمجتمعه وظروفه وبنيويته.

هل يمكن أن ندرس مهدي بمعزل عن الحركة التي شكّل جزءاً منها، ونضعه في مختبر لنحلّله ونفهمه بعيداً عن العوامل الخارجية عنه والمؤثّرة فيه؟

دراسة مهدي عامل برأيي يجب أن تأتي في سياق دراسة كاملة للمشروع الذي قطعته الحرب الأهلية في لبنان بهدف البحث عن كيفية استئنافه أو إيجاد البدائل. هذه الدراسة تبدو لي من قبيل الاختصاص أو الثقافة المعمّقة لا في إطار الثقافة السياسية العامّة. معظم الشباب الذي يقرأ حسن حمدان إنّما يقرؤه تحت تأثير سحر الاسم وما يُروى عنه، قراءة معزولة عن الحركة الفكرية العامة التي كان حسن أحد أعمدتها، ومعزولة أيضاً عن ظروف تكوّنها.

حيث نقف، يبدو مهدي جزءاً من تاريخ بعيد، فيما هو ينتمي واقعياً إلى الجزء الأكثر نبضاً بالحياة من ثقافتنا وهويّتنا الفكرية والسياسية. أنظر إلى كلّ ما هو إيجابي اليوم على هذا الصعيد فأراه يعود إلى تلك الحقبة التي بدا خلالها الحلّ الاشتراكي حلاً ممكناً. يوم كان الاختلاف عن الرأسمالية ممكناً كانت الحلول البديلة غنىً ورحابة الفكر ضرورة في كل مجال، في الفن والأدب والعلم وحتى الأزياء. المسألة اليوم ليست في العودة إلى مهدي عامل، ولا في استخلاص الصائب من استنتاجاته، بل فهمه والنظر إليه كموضوع معرفيّ، تماماً كما نظر هو إلى مختلف المواضيع كالحرب الأهلية والتراث.

في عصر "الحريّات العامة" الآخذة بالتوسع جغرافياً(!) والصعود نوعياً(!) كما يؤكّد الإعلام المعاصر، أرى أن الحريّة باتت بحقّ حريّة الخيار الوحيد، وأصبح البحث عن بدائل واقعية تناسب المجتمعات، كُلاً بحسب خصوصيته يُسمّى انغلاقاً، والانفتاح لا يكون إلا بمسح وطمس معالم المجتمع وثقافته. والفكر لا ينجو من هذه الوحشية. يتملّكني استغراب وشعور بالانسلاخ عن تراث عربي إسلامي عريق في حرية الفكر والكلمة، ليس حرية من سطوة السلطة فحسب، بل حرية من الأحكام المسبقة السهلة، والمحرّمات السياسية والاجتماعية. في حقبات غابرة، برزت أسماء تنضح بالحرية كابن خلدون وابن رشد والمعرّي، وفي حقبة شديدة القرب مرّ آخرون كحسين مروّة وحسن حمدان، واليوم تملأ عالمنا أسماء حرّة لكن انجرافنا في تيّار النسخ الأعمى والاقتباس الغبي في مختلف أوجه الثقافة والحياة سدّ منافس الحرية ومجالات الأصالة الحقّة وأفرد المكان للانصياع.

بعد تغيّر جلّ الظروف التي عايشها مهدي والتي نظر إلى الواقع عبرها، وبعد التراجع الحادّ، المسمىّ انهياراً، انهيار المشروع، الأزمة لم تُحلّ، بل ازدادت توتّراً، والامبريالية ازدادت وحشية، والشعب العربي لم يثر، والعالم بالطبع لم يتحول إلى الشيوعية. لكن "التاريخ ليس أحداثا، وإن كانت الأحداث تملؤه، إنّه بنى وعلاقات بنيوية تتحرّك حاملة أحداثاً لا يمكن فهمها في حركة إلا بإرجاعها إلى سندها ذاك الذي هو تلك البنى أو العلاقات البنيوية". نهضة جديدة تبدأ بالعودة إلى تلك البنى وفهمها باستكمال الأدوات المعرفية، التي حمل مهدي همّ بنائها، عبر تعميقها والتدقيق فيها ومراجعة المقاربات في استعمالها.

قصائده قد تكون الأكثر تعبيراً عن الهواجس التي سكنته وأرّقته، وعن الانسان المسكون رقةً.

"بيروتُ/ والليل اختصار العمر في بيروت" 26/10/1982 – "فضاء النون"

"ويجيء الفكر كعادته/ ينقر باب الليل/ ويدخل/ يجلس في كرسيٍّ/ يتفقد أوراق الأمس/ -دَعِ الأشياء تقول الأشياء/ ولا تقحم ذاتك في مجرى العقلِ" 9/8/1981 –"فضاء النون"

حسن حمدان الشاعر، من قرأه؟ يوم كان على وجه الأرض أعتق نفسه من عبودية عالقة تسعى لحجب كلمته فأسمى نفسه "هلال بن زيتون" مرّة و"مهدي عامل" مراراً.

"حملتُ ظهري مئذنة/ خلتِ المساجدُ/ قد تداعى صوتها/ لم يبقَ إلا كاذبٌ يهدني/ أمّا الجموع/ فصوب القبلةِ الأخرى تُوَجِّه وجهها/ فلقد تعالى صوتها/ في الساحة الكبرى/ لا بدّ أن يهوي/ هذا الزمان الذي/ واقفاً يجري / أدركت بالعقل هذا/ لم أكن وحدي/ معي كان الرفاق/ لكنني/ في لوعتي مما رأيتُ/ بقيتُ وحدي أنتظرْ/ على ضفاف الحلمِ/ وحدي/ سوف أهوي

أيار 1973 – "تقاسيم على الزمن"

أمئذنة جموع من اغتاله؟ بل أيضاً مئذنة الجموع التي بكت لاستشهاده.

يا قارئه إليك نفسه فاستبحها، يا قارئه إليك نفسك فاستبحها. تُرك يستبيحه النسيان. هلال بن زيتون الذي حمل رأسه على كفّه منادياً ليأخذوه منه فسمع رجع الصدى "أدفنه في الصحراء لن يبقى منك سوى صوت/ وحفرةٍ في الشرق وحفرةٍ في الغرب"، يقبع على إحدى الرفوف في معرض الكتاب، وأقلّ من الذين يقرؤونه هم الذي يعلمون أن هلال بن زيتون من أسماء حسن الأخرى.

والسهم في عينيّ يمرّ/ أنا القتيلُ/ أعود أهوي/ مثلما كنتُ/ وأضمحلُّ/ وأنتفي/ ويعودُ ينغلقُ الزمانُ على الزمانِ حزيران 1973 – "تقاسيم على الزمن"

أين نجح مهدي عامل في نظريته ومقارباته وأين فشل؟ نحن بحاجة لإعادة قراءته مرّات عديدة، فتلك التجربة هي ماضينا الذي فيه يكمن حاضر بنانا الاجتماعية. ان القادر على متابعة المشروع الذي انخرط فيه مهدي هو القادر على تجاوز فهم شروط نمو المجتمع إلى فهم بنيوية هذا المجتمع ومعرفة نوع النمو الذي يحدث الآن في أعماق الحقبة التي نعيشها، وفهم وتحليل طابع ذاك النمو عبر استنباط منهجيات للتحّقيق العلميّ تسمح بالتقدّم في مختلف مجالات الفكر، لأن النمو الحاصل في أعماق اليوم يحمل شكل الغد، والهوية هي ما نحن عليه اليوم حقاً لا ما كنّا عليه في الأمس ولا ما يخيّل إلينا أننا سنكونه غداً.

الأربعاء، سبتمبر 23، 2009

ثقافة النسخ

صدف أن استمعتُ على الراديو إلى مقابلة مع أعضاء فرقة "راب" تُدعى "كتيبة خمسة". لاجئون فلسطينيون في لبنان مع كل ما في ذلك من صعوبات ومصائب. بضعة شبّان اتّخذوا من موسيقى الراب وسيلة للتعبير عمّا في صدورهم من رفض وثورة ووعي سياسي.

بثّ الراديو بعضاً من أغنياتهم أثناء المقابلة، يغنّون عن المخيّم وشوارعه وناسه بلهجة تُطوّع المفردات والتعابير الرائجة لتعطيها وقعاً شديد الشبه بوقع ما أسمعه من مفردات وتعابير أغاني الراب الغربية.

الفقر واحدٌ في العالم كلّه، والمأساة البشرية واحدة لا شك.

تسألهم المذيعة عن رأيهم بفرق الراب العربية المنتشرة في الغرب، يجيبون بأنها فرف برجوازية دخيلة على الراب، فهموم الشباب البرجوازي تختلف عن همومهم، وهم باعتقادي محقّون. لكن المذيعة تعطي مثالاً عن فرقة راب لبنانية في فرنسا اشتُهِرَت بأغنية “Pour Deux Soldats capturés” "من أجل جنديين أسيرين" ، أغنية عن أسر المقاومة للجنديين الإسرائيليين في عام 2006، والأغنية تمجّد العمل البطولي. يجيب أحد أعضاء فريقة "كتيبة 5" أن البعض يرفع شعارات "ليطلّع مصاري على ضهر غيرو". يحتجّ على أولئك الذين لم يعرفوا البلد يوماً وهم إلى ذلك يصرّون أن يقدّموا أنفسهم بصورة "ولاد البلد" للترويج.

الصدق أقول أنني لست من متابعي الراب العربي أو الغربي، غير أن أغنية الراب التي تتناول موضوع "طفّار" بعلبك-الهرمل على موقع " يو تيوب" قد أعجبتني.

ليست تلك المسألة.

الشبان في "كتيبة 5" وجدوا في الراب وسيلة مناسبة للتعبير عن أنفسهم ولعكس واقعهم، واقع مجتمعهم وأحواله، هنا المسألة.

قالب أو شكل موسيقي منسوخ من الشوارع والأحياء الفقيرة في الولايات المتّحدة الأميركية، شوارع وأحياء السود بالذات، أو "الأفارقة-الأميركيون" تجنّباً للعنصرية. كغيره من أنواع الموسيقة الغربية لاقى الراب رواجاً في العالم العربي. لكن الشكل أو القالب الموسيقي يعكس واقعاً اجتماعياً، أقصد أن الراب ،شكلا وضموناً، هو من انتاج المجتمع الذي نشأ فيه، وهو يعكس صورة هذا المجتمع في كلمات الأغنيات وفي ألحانها، جُمَلاً وتقاطيع ومفرادات موسيقية.

كيف ينشأ الاعتقاد لدى الشباب "أبناء القضية" التي يلتزمون بها في المخيّمات الفلسطينية أو في الشوارع والأحياء العربية أنّه يمكن لشكل موسيقي منسوخ بالكامل أن يعبّر عن مجتمع يختلف تماماً عن المجتمع الذي أنتج هذا الشكل الموسيقي؟

الموسيقى، كالفقر ربّما، لغة عالمية لا تعترف بحدود، لكن الموسيقى لا تنكر منشأها الاجتماعي والتاريخي والجغرافي بل تعكسه بإخلاص، مرّة ثانية كالفقر ربما.

"كتيبة 5"، ككثر غيرهم، يستسهلون النسخ والنقل لإيجاد إطار يعبّرون من خلاله عن نفسهم، ويسعون للتمايزعن غيرهم. تلك حال المجتمعات العقيمة، وإن كان العقم إلى حين، غير القادرة على إنتاج أُطُرها الخاصة الأصيلة للتعبير والانتاج.ننسخ الملابس والأبنية الفنون واللهجة والمظهر والإعلام وكل شيء، لمَ لا ننسخ الموسيقى؟

الموسيقى جزء من الكلّ المنسوخ.

ماذا لو كتب محمود درويش، مثلاً، شعره بالفرنسية؟ الأكيد أنّه حين تمّت ترجمة بعض قصائده إلى الفرنسية كان لا بدّ من إيجاد من يمكنه أن يلقيها بأكثر ما يمكن من الإخلاص للحرارة إلقاء محمود بالعربية، وهكذا كان.

بهذا المعنى أجد، على عكس رأي أعضاء "الكتيبة 5" أنّه من الأجدى أن تنشأ فرق الراب العربية في أميركا وأوروبا، وأن تجعل من القضية العربية الكبرى، القضية الفلسطينية والصراع العربي-الاسرائيلي موضوعاً لأغنياتها، وأن تقدّمها للمجتمعات هناك بشكل موسيقيّ هو ابن تلك المجتمعات. أقول أن ذلك أجدى بكثير من فرقة راب في بيروت أو ضاحيتها أو في بعلبك أو في المخيّم الفلسطيني أو في أيّ شارع عربي، حتى لو كان مغنّون الراب العرب في اوروبا و أميركا لم يطؤوا الأرض العربية يوماً، بل خاصةً إذا كانوا لم يطؤوها. فليغنّوا الراب حيث يستسيغه الناس الذين أنجبوه، ولنستمتع نحن بما شئنا منه أو من غيره، لكن لنبحث عن أشكال للتعبير والتأليف تكون من انتاجنا وتعبّر حقّاً عن ثقافتنا وحياتنا اليوم، ان كانت هجينة أم ممسوسة أم ملوّنة أم أصيلة أم عريقة، مهما كانت.

نتّجه مباشرة نحو استنفاد مخزوننا الثقافي ونستورد الثقافة التي انتجتها مجتمعات أخرى.