لماذا الهوية الفكرية؟
نعاني، في عصر اضمحلال اليسار في الوطن العربي، بالرغم من إشارات انتعاشه في أماكن كثيرة في العالم، من التباس المفاهيم والقيم والأهداف، وضبابية الجبهات الأكثر سخونة، أسأل كآخرين، أين يبدأ الحل؟ أو بطموح أقلّ، كيف يبدأ البحث عن حلّ؟
القناعة الراسخة بأن التحرّر من التبعيّة يؤدّي إلى حياة أفضل تقودني إلى البحث عن منهج عمل أكثر ارتباطاً بهذا المجتمع، بكليّته وبتفاصيله.
في مجتمع تابع، لاهث لتأكيد تبعيّته للمركز الباهر تبدو المهمّة بالغة الصعوبة. مجتمع اعتاد انتاج فكر لا يسعى إلا إلى إسقاط نظريات واردة من خارجه تأكيداً على تبعيّته وانبطاحه الكامل أمام المركز. التحرّر من هذه التبعية يصبح ممكناً إذا توافر الفكر القادر على فهم المجتمع والإضاءة على النقاط التي يمكن تنميتها من أجل دفعه إلى التطوّر والتحرّر، و الفكر القادر على تحديد الخطى الممكنة عملياً من أجل التقدّم وزرع أسباب الممانعة والمقاومة.
يأتي مهدي عامل جزءاً من حركة فكرية تحرّرية حاولت أن تغذّي بذور الفكر المادي في العالم العربي لتقدّم نموذجاً نظرياً وعملياً يمكن أن يتجذّر ويتعمّق في مجتمع تنخر هيكله الأحكام الغيبية والأحلام العقيمة والتبعيات الهدّامة.
اليوم، مَن يقرأ مهدي عامل فكراً وشعراً؟ يلحّ عليّ سؤال آخر، من قرأ مهدي عامل يوم كان يسير على وجه الأرض؟ يوم كان يلقي محاضراته في قاعات معهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، القاعات التي كانت تغصّ بالطلاب المتلهفين لسماعه؟ من قرأ مهدي عامل من جيل الحرب ومن جيل ما بعد الحرب؟ قلّة ضئيلة دون شك. قد يكون مفيداً أن نسأل عن الأسباب وأن نسأل أين تكمن الفائدة حقّاً من قراءة مهدي عامل. لكنني لستُ في هذا الصدد ولستُ الشخص المناسب للإجابة عن هذا السؤال.
أسأل مَن مِن أبناء جيلي قرأ مهدي؟ أسأل ما هي هويّتنا الفكرية والسياسية نحن "أولاد اليوم"؟ ما هي مكوّنات ثقافتنا وكيف اكتسبناها؟ كيف تكون لنا هوية وقد تاهت ثقافتنا والتبست انتماءاتنا وبلغ الشك منّا مبلغ الشكّ في أوضح المسائل وأكثر الحقائق سطوعا. هل يمكن لمجتمع مُسِحت معالمه وسقطت أسباب مناعته أن يُنتج فكراً حُرّاً يهيّء السبيل لغدٍ أفضل؟ تبدو الصورة قاتمةً لاريب. لكن ما دام هذا المجتمع موجود فإن إمكانية تحرّره كامنة فيه بالضرورة، وتأكيد حضور ما تبقّى من ملامح هويّتننا وتطويرها يأتي بالضرورة في اتجاه انعتاقنا من التبعية.
أمرّ على إحدى مساهمات مهدي الكثيرة بوثائق حزبه، الحزب الشيوعي اللبناني، فألمس انتماءه إلى ذلك المشروع وانخراطه فيه انطلاقاً من مختلف المواقع التي كان فاعلاً فيها. مشروع مهدي تعرّض لقطع عنيف كما تعرّضت ثقافتنا، في مسيرة تطوّرها وتقدّمها، لعمليات قطع مشابهة متتالية ليست آخرها الحرب الأهلية. ما قام به مهدي كان استكمالاً لعملية فكرية بدأت قبله، نظر إلى بذور الفكر المادي في المجتمع العربي منذ ابن خلدون فحلّلها وحقّق فيها واستخلص منها ما يمكن أن يؤسّس لهوية فكرية عربية ماركسية. في رأيه "لاوجود لفكر ماركسي نظامي في الفكر العربي إلا فيما ندر"، لكنه موجود وحاضر في ممارسات الحركة الشيوعية العربية، فيما هو صحيح وغير صحيح في خطّها السياسي، وبإمكاننا استخراج هذا الفكر الماركسي إذا نظرنا نظرة نقدية إلى تلك الممارسات. غاص مهدي في جدالات فكرية وسياسية مع معاصريه، من إدوار سعيد حتى جوزيف سماحة، ربما بلهجة جامحة في بعض المواقع. لكنه سعى دائما إلى نظرية أصيلة تبتعد عن الاسقاطات السطحية، وإن لجأ دون مواربة إلى الاستعانة، والاقتباس في أحيان كثيرة، بنتاج فكر مجتمعاتٍ مختلفة عن المجتمع العربي، غير أنّه استعمل الأدوات المنهجية بوعي وإدراك عاليين لماهيّة الأداة وأساليب استعمالها، وبإدراك عميق لمجتمعه وظروفه وبنيويته.
هل يمكن أن ندرس مهدي بمعزل عن الحركة التي شكّل جزءاً منها، ونضعه في مختبر لنحلّله ونفهمه بعيداً عن العوامل الخارجية عنه والمؤثّرة فيه؟
دراسة مهدي عامل برأيي يجب أن تأتي في سياق دراسة كاملة للمشروع الذي قطعته الحرب الأهلية في لبنان بهدف البحث عن كيفية استئنافه أو إيجاد البدائل. هذه الدراسة تبدو لي من قبيل الاختصاص أو الثقافة المعمّقة لا في إطار الثقافة السياسية العامّة. معظم الشباب الذي يقرأ حسن حمدان إنّما يقرؤه تحت تأثير سحر الاسم وما يُروى عنه، قراءة معزولة عن الحركة الفكرية العامة التي كان حسن أحد أعمدتها، ومعزولة أيضاً عن ظروف تكوّنها.
حيث نقف، يبدو مهدي جزءاً من تاريخ بعيد، فيما هو ينتمي واقعياً إلى الجزء الأكثر نبضاً بالحياة من ثقافتنا وهويّتنا الفكرية والسياسية. أنظر إلى كلّ ما هو إيجابي اليوم على هذا الصعيد فأراه يعود إلى تلك الحقبة التي بدا خلالها الحلّ الاشتراكي حلاً ممكناً. يوم كان الاختلاف عن الرأسمالية ممكناً كانت الحلول البديلة غنىً ورحابة الفكر ضرورة في كل مجال، في الفن والأدب والعلم وحتى الأزياء. المسألة اليوم ليست في العودة إلى مهدي عامل، ولا في استخلاص الصائب من استنتاجاته، بل فهمه والنظر إليه كموضوع معرفيّ، تماماً كما نظر هو إلى مختلف المواضيع كالحرب الأهلية والتراث.
في عصر "الحريّات العامة" الآخذة بالتوسع جغرافياً(!) والصعود نوعياً(!) كما يؤكّد الإعلام المعاصر، أرى أن الحريّة باتت بحقّ حريّة الخيار الوحيد، وأصبح البحث عن بدائل واقعية تناسب المجتمعات، كُلاً بحسب خصوصيته يُسمّى انغلاقاً، والانفتاح لا يكون إلا بمسح وطمس معالم المجتمع وثقافته. والفكر لا ينجو من هذه الوحشية. يتملّكني استغراب وشعور بالانسلاخ عن تراث عربي إسلامي عريق في حرية الفكر والكلمة، ليس حرية من سطوة السلطة فحسب، بل حرية من الأحكام المسبقة السهلة، والمحرّمات السياسية والاجتماعية. في حقبات غابرة، برزت أسماء تنضح بالحرية كابن خلدون وابن رشد والمعرّي، وفي حقبة شديدة القرب مرّ آخرون كحسين مروّة وحسن حمدان، واليوم تملأ عالمنا أسماء حرّة لكن انجرافنا في تيّار النسخ الأعمى والاقتباس الغبي في مختلف أوجه الثقافة والحياة سدّ منافس الحرية ومجالات الأصالة الحقّة وأفرد المكان للانصياع.
بعد تغيّر جلّ الظروف التي عايشها مهدي والتي نظر إلى الواقع عبرها، وبعد التراجع الحادّ، المسمىّ انهياراً، انهيار المشروع، الأزمة لم تُحلّ، بل ازدادت توتّراً، والامبريالية ازدادت وحشية، والشعب العربي لم يثر، والعالم بالطبع لم يتحول إلى الشيوعية. لكن "التاريخ ليس أحداثا، وإن كانت الأحداث تملؤه، إنّه بنى وعلاقات بنيوية تتحرّك حاملة أحداثاً لا يمكن فهمها في حركة إلا بإرجاعها إلى سندها ذاك الذي هو تلك البنى أو العلاقات البنيوية". نهضة جديدة تبدأ بالعودة إلى تلك البنى وفهمها باستكمال الأدوات المعرفية، التي حمل مهدي همّ بنائها، عبر تعميقها والتدقيق فيها ومراجعة المقاربات في استعمالها.
قصائده قد تكون الأكثر تعبيراً عن الهواجس التي سكنته وأرّقته، وعن الانسان المسكون رقةً.
"بيروتُ/ والليل اختصار العمر في بيروت" 26/10/1982 – "فضاء النون"
"ويجيء الفكر كعادته/ ينقر باب الليل/ ويدخل/ يجلس في كرسيٍّ/ يتفقد أوراق الأمس/ -دَعِ الأشياء تقول الأشياء/ ولا تقحم ذاتك في مجرى العقلِ" 9/8/1981 –"فضاء النون"
حسن حمدان الشاعر، من قرأه؟ يوم كان على وجه الأرض أعتق نفسه من عبودية عالقة تسعى لحجب كلمته فأسمى نفسه "هلال بن زيتون" مرّة و"مهدي عامل" مراراً.
"حملتُ ظهري مئذنة/ خلتِ المساجدُ/ قد تداعى صوتها/ لم يبقَ إلا كاذبٌ يهدني/ أمّا الجموع/ فصوب القبلةِ الأخرى تُوَجِّه وجهها/ فلقد تعالى صوتها/ في الساحة الكبرى/ لا بدّ أن يهوي/ هذا الزمان الذي/ واقفاً يجري / أدركت بالعقل هذا/ لم أكن وحدي/ معي كان الرفاق/ لكنني/ في لوعتي مما رأيتُ/ بقيتُ وحدي أنتظرْ/ على ضفاف الحلمِ/ وحدي/ سوف أهوي
أيار 1973 – "تقاسيم على الزمن"
أمئذنة جموع من اغتاله؟ بل أيضاً مئذنة الجموع التي بكت لاستشهاده.
يا قارئه إليك نفسه فاستبحها، يا قارئه إليك نفسك فاستبحها. تُرك يستبيحه النسيان. هلال بن زيتون الذي حمل رأسه على كفّه منادياً ليأخذوه منه فسمع رجع الصدى "أدفنه في الصحراء لن يبقى منك سوى صوت/ وحفرةٍ في الشرق وحفرةٍ في الغرب"، يقبع على إحدى الرفوف في معرض الكتاب، وأقلّ من الذين يقرؤونه هم الذي يعلمون أن هلال بن زيتون من أسماء حسن الأخرى.
والسهم في عينيّ يمرّ/ أنا القتيلُ/ أعود أهوي/ مثلما كنتُ/ وأضمحلُّ/ وأنتفي/ ويعودُ ينغلقُ الزمانُ على الزمانِ حزيران 1973 – "تقاسيم على الزمن"
أين نجح مهدي عامل في نظريته ومقارباته وأين فشل؟ نحن بحاجة لإعادة قراءته مرّات عديدة، فتلك التجربة هي ماضينا الذي فيه يكمن حاضر بنانا الاجتماعية. ان القادر على متابعة المشروع الذي انخرط فيه مهدي هو القادر على تجاوز فهم شروط نمو المجتمع إلى فهم بنيوية هذا المجتمع ومعرفة نوع النمو الذي يحدث الآن في أعماق الحقبة التي نعيشها، وفهم وتحليل طابع ذاك النمو عبر استنباط منهجيات للتحّقيق العلميّ تسمح بالتقدّم في مختلف مجالات الفكر، لأن النمو الحاصل في أعماق اليوم يحمل شكل الغد، والهوية هي ما نحن عليه اليوم حقاً لا ما كنّا عليه في الأمس ولا ما يخيّل إلينا أننا سنكونه غداً.