بثّ الراديو بعضاً من أغنياتهم أثناء المقابلة، يغنّون عن المخيّم وشوارعه وناسه بلهجة تُطوّع المفردات والتعابير الرائجة لتعطيها وقعاً شديد الشبه بوقع ما أسمعه من مفردات وتعابير أغاني الراب الغربية.
الفقر واحدٌ في العالم كلّه، والمأساة البشرية واحدة لا شك.
تسألهم المذيعة عن رأيهم بفرق الراب العربية المنتشرة في الغرب، يجيبون بأنها فرف برجوازية دخيلة على الراب، فهموم الشباب البرجوازي تختلف عن همومهم، وهم باعتقادي محقّون. لكن المذيعة تعطي مثالاً عن فرقة راب لبنانية في فرنسا اشتُهِرَت بأغنية “Pour Deux Soldats capturés” "من أجل جنديين أسيرين" ، أغنية عن أسر المقاومة للجنديين الإسرائيليين في عام 2006، والأغنية تمجّد العمل البطولي. يجيب أحد أعضاء فريقة "كتيبة 5" أن البعض يرفع شعارات "ليطلّع مصاري على ضهر غيرو". يحتجّ على أولئك الذين لم يعرفوا البلد يوماً وهم إلى ذلك يصرّون أن يقدّموا أنفسهم بصورة "ولاد البلد" للترويج.
الصدق أقول أنني لست من متابعي الراب العربي أو الغربي، غير أن أغنية الراب التي تتناول موضوع "طفّار" بعلبك-الهرمل على موقع " يو تيوب" قد أعجبتني.
ليست تلك المسألة.
الشبان في "كتيبة 5" وجدوا في الراب وسيلة مناسبة للتعبير عن أنفسهم ولعكس واقعهم، واقع مجتمعهم وأحواله، هنا المسألة.
قالب أو شكل موسيقي منسوخ من الشوارع والأحياء الفقيرة في الولايات المتّحدة الأميركية، شوارع وأحياء السود بالذات، أو "الأفارقة-الأميركيون" تجنّباً للعنصرية. كغيره من أنواع الموسيقة الغربية لاقى الراب رواجاً في العالم العربي. لكن الشكل أو القالب الموسيقي يعكس واقعاً اجتماعياً، أقصد أن الراب ،شكلا وضموناً، هو من انتاج المجتمع الذي نشأ فيه، وهو يعكس صورة هذا المجتمع في كلمات الأغنيات وفي ألحانها، جُمَلاً وتقاطيع ومفرادات موسيقية.
كيف ينشأ الاعتقاد لدى الشباب "أبناء القضية" التي يلتزمون بها في المخيّمات الفلسطينية أو في الشوارع والأحياء العربية أنّه يمكن لشكل موسيقي منسوخ بالكامل أن يعبّر عن مجتمع يختلف تماماً عن المجتمع الذي أنتج هذا الشكل الموسيقي؟
الموسيقى، كالفقر ربّما، لغة عالمية لا تعترف بحدود، لكن الموسيقى لا تنكر منشأها الاجتماعي والتاريخي والجغرافي بل تعكسه بإخلاص، مرّة ثانية كالفقر ربما.
"كتيبة 5"، ككثر غيرهم، يستسهلون النسخ والنقل لإيجاد إطار يعبّرون من خلاله عن نفسهم، ويسعون للتمايزعن غيرهم. تلك حال المجتمعات العقيمة، وإن كان العقم إلى حين، غير القادرة على إنتاج أُطُرها الخاصة الأصيلة للتعبير والانتاج.ننسخ الملابس والأبنية الفنون واللهجة والمظهر والإعلام وكل شيء، لمَ لا ننسخ الموسيقى؟
الموسيقى جزء من الكلّ المنسوخ.
ماذا لو كتب محمود درويش، مثلاً، شعره بالفرنسية؟ الأكيد أنّه حين تمّت ترجمة بعض قصائده إلى الفرنسية كان لا بدّ من إيجاد من يمكنه أن يلقيها بأكثر ما يمكن من الإخلاص للحرارة إلقاء محمود بالعربية، وهكذا كان.
بهذا المعنى أجد، على عكس رأي أعضاء "الكتيبة 5" أنّه من الأجدى أن تنشأ فرق الراب العربية في أميركا وأوروبا، وأن تجعل من القضية العربية الكبرى، القضية الفلسطينية والصراع العربي-الاسرائيلي موضوعاً لأغنياتها، وأن تقدّمها للمجتمعات هناك بشكل موسيقيّ هو ابن تلك المجتمعات. أقول أن ذلك أجدى بكثير من فرقة راب في بيروت أو ضاحيتها أو في بعلبك أو في المخيّم الفلسطيني أو في أيّ شارع عربي، حتى لو كان مغنّون الراب العرب في اوروبا و أميركا لم يطؤوا الأرض العربية يوماً، بل خاصةً إذا كانوا لم يطؤوها. فليغنّوا الراب حيث يستسيغه الناس الذين أنجبوه، ولنستمتع نحن بما شئنا منه أو من غيره، لكن لنبحث عن أشكال للتعبير والتأليف تكون من انتاجنا وتعبّر حقّاً عن ثقافتنا وحياتنا اليوم، ان كانت هجينة أم ممسوسة أم ملوّنة أم أصيلة أم عريقة، مهما كانت.
نتّجه مباشرة نحو استنفاد مخزوننا الثقافي ونستورد الثقافة التي انتجتها مجتمعات أخرى.