الأربعاء، يناير 13، 2016

بعلبك، أمكنة متحوّلة تحت الشمس



بعلبك، أمكنة متحوّلة تحت الشمس

الأحياء والطبيعة والتحوّل والهوية


بعلبك في أذهان الناس من غير أهلها، تكاد تنحصر بأعمدة ستّة وآثار قديمة. واجهة سياحية أثرية ذائعة الصيت، أضيفت إليها مهرجانات دولية، ساحرة ومرموقة كما يُقال. يقصدها الناس من بيروت ليشاهدوا العروض العالمية على الأدراج وفي الهياكل. صورة عن البلد الرسالة وهمزة الوصل. لكن حال أهل المدينة يملأ سماءها بصخب يقول أشياء أخرى. 


أحشاء المدينة: الأحياء السكنية




يتوزّع الازدحام بين "رأس العين" وأحياء المدينة عبر شارع "بشارة الخوري"، لكنه لا يختفي تماماً، بل يخفّ أو يشتدّ تبعاً للمناطق التي يمرّ فيها وللأوقات التي يتغيّر خلالها.


أدخل الزواريب الفقيرة فتتبدّى بعض البيوت الحجرية، منها ما هو متداع وآيل إلى السقوط، ومنها ما انهار، ومنها ما يستعين بتدعيم اسمنتيّ ليصمد بكلفة أقل من كلفة هدمه وتشييد بناء جديد. الزواريب الضيقة المتعرّجة والنسيج المتضامّ يوّلدان شعوراً مباشراً بالألفة والطمأنينة. يغمر المكان نور، أو يخفّف حدّة الشمس ظلّ، أو يعمّه ظلام تخترقه الأنوار المنبعثة من نوافذ المنازل، فتُنير الطريق. تتابع الزواريب تعرّجها، تعكّر ألفتها بعض الأبنية المرتفعة بطبقاتها أعلى من قدرة الزاروب على حمل الألفة إليها. أبنية كانت أثناء تشييدها ملهى لنا، ندخلها بعد خروج عمّال البناء منها، نلتقط ما تيسّر من أخشاب وقطع حديد نبتكر منها ألعاباً غالباً ما تكون مؤذية. نبني عوالم ونخوض معارك بين الأعمدة والجدران. عند أحد المنعطفات يتّسع الزاروب بضعة أمتار، فيخلق مساحة ليلعب فيها أطفال الحي، أو لتركن بضع سيارات أعجب من قدرتها على بلوغ هذا العمق.

تتراءى بعض الحدائق من خلف المنازل برؤوس أشجار خضراء، أو تصاوين محاذية للطريق. إحدى الحدائق ذائعة الصيت، كانت تحوي في أقفاصها الكبيرة طواويس تملأ بصياحها الحارات المجاورة، وكلبين "دلماسيين" ليس في بعلبك غيرهما من هذا الصنف. كنّا أطفالاّ نقلّد صوت الطاووس، صيحةٌ يطلقها كلّ من يمرّ أمام الحسينية ولا يجد أحداً يلعب هناك، منادياً أترابه علّهم يلاقوه للعب. 


أثقل العمر ظهرَيْ صاحبَيْ الحديقة، فصارت مجرد حديقة. حدائق تتآكل سنة بعد أخرى بفعل البناء المتزايد. كأنما لا مفرّ من الرمادي والألوان الفاقعة، ألوان طلاء غزت الأسواق منذ سنوات، وغزت الجدران ساحقةً حسّ الناس بألوان التراب والطبيعة، تزهو تحت الشمس فتُكسب المدينة مظهراً جميلاً كانت عليه ذات يوم.



تمدّد المدينة: المجالات الطبيعية


المدينة ما تزال مقسّمة إلى أحياء بحسب العائلات والطوائف. يُخترق هذا التقسيم بقدر نزوح أبناء بعلبك إلى بيروت، ونزوح أهل القرى المجاورة ليملؤوا الفراغ الذي خلّفه من غادر. تلتقي الأحياء متجاوزة الفواصل في السوق وفي منتزه "رأس العين"، لتتسلّق سفح السلسلة الشرقية الأجرد بنياناً، لا يحكمه سوى مزاج البعلبكيين الهاربين من الاكتظاظ إلى السفح المشرف الذي كنّا نقصده صغاراً، في الصباح الباكر، من أجل بُصيلة "العُسَّيل" الجرديّة الصغيرة الحلوة المذاق. يتحوّل السفح شيئاً فشيئاً إلى أحياء تتربّص بالمدينة، لتنهار عليها ذات يوم شديد الثلوج أو غزير الأمطار.

تبدو بعلبك للناظر من الجُرد ساكنة مترامية الأطراف. لا شيء يضبط الأبنية، لا ناظم للكتل ولا للواجهات ولا للألوان ولا للاكتظاظ. بعلبك آخذة بالتحوّل من وداعتها، إلى بؤسها المتراكم كُتلاً بكلّ الاتجاهات. مكبّ النفايات العارم، بأدخنته المتصاعدة التي تخنق تحتها "تلة الكيّال"، ينافس بثقله حضور "تلّة الشيخ عبد الله". يحاول "برج الشمس"، المُزَجَّج القبيح، التطاول مع بضعة أبنية أخرى على هيمنة الأعمدة الستة في المشهد.

عند طرف المدينة الشمالي ما يزال "التل الأبيض" أبيضاً بتربته الكلسية، لكن المشهد هناك يشي بأن الأمر لن يطول على حاله. فهناك أيضاً يتوغّل البنيان 

*** 

لا ينجو من المشهد العام سوى اخضرار البساتين. هناك ما يزال الغزو خجولاً مقارنة بالمدينة، ولا تزال خطاه متردّدة بطيئة. تلك الطرقات المنبسطة والأحياء الصغيرة، أشدّ فقراً من أن تواكب الركب إلى الخراب، وأبطأ من أن تُسرع إلى مصير لا داعي لأن تستعجله. سرعة السير في الطرقات لا تتجاوز قدرة جرّارٍ زراعيٍّ قديم، يسير بين صفّين من أشجار الحور المتهادية غرباً نحو "نبع عدّوس". النبع الذي يروي أراضٍ زراعية واسعة، كان يقصدها البعلبكيون ليمضوا نهاراً بعيداً عن كلّ صخب وازدحام.





***

أوغل في الشمال الشرقي، عبر السهل الممتدّ حتى الأفق. أتجاوز "حي صلح"، تبدأ الطريق بالصعود والهبوط تبعاً للتلال الصغيرة هناك حيث كانت تنتشر كروم العنب والتين منذ خمس عشرة عاماً. أمّا اليوم فقد امتدّ البناء عميقاً محتلاً، يقضم مساحات واسعة منها. تهبط الطريق بين تلّتين، فيختفي من المشهد أيّ أثر لتمدّد المدينة. يستعيد المشهد كثيراً من صفائه على تخوم بلدة "نحلة". "الكروم" ثالث مجالات الصيد في بعلبك، مع "السهل" و"الجرد". صيد الطيور والكنوز، إذ كانت تنتشر مواقع التنقيب غير الشرعية عن الآثار. اكتشف أصحاب الأرض هناك أن باطن أرضهم أكرم من ظاهرها، فنخروها نخراً. وجدوا الكثير وهرّبوه وباعوه على مدى عقود طويلة. 


انتشر التنقيب عن الآثار في بعلبك، أيام الحرب الأهلية، حتى دخل حدائق المنازل. زاد إقبال الناس على التنقيب، ما قيل عمّا وجده البعض في مواقع لا تخطر ببال. يترافق ذكر التنقيب عن الآثار مع زراعة الأفيون الذي ملأ السهول وحدائق المنازل هو الآخر، من أجل مدخول إضافيّ. كانت حدائق الحارة منخورة بحفر تعد بالذهب، ومزروعة بسيقان خضراء طويلة، تتوجّها زهور زاهية تعد بالسائل المخدّر الثمين، إذ يقبض كهلٌ على شفرةٍ يجرّح الأجراس بتأنٍّ، وآخر موسم الأفيون يعد الصِّبْيَةَ بمجموعة من الخشخاش.



هوية المدينة: التحوّل والصمود 


أستجمع ما بقي لديّ من قدرة لأصعد "تلّة الشيخ عبد الله". أمرّ قرب آثار معبد عطارد. أصعد أطلال المدرّج الأثريّ، وصولاً إلى قمّة التلّة المشرفة على المدينة من كل أطرافها. تجد الأبنية بصعوبة بالغة موطئاً لأقدامها. أعمدة إضاءة الملعب الرياضي، مسلطة على المنشأة الغائرة تحت التراب في الجهة الشمالية الشرقية. الجرد المواجه آخذ في التقلّص، وبعلبك وحيدة فوق السهل. تتوجّس على مرتفعها، تترقّب الغزو الذي وصلت طلائعه.


تبدو بعلبك حادّة الملامح وليّنة الطباع. "هياكل" في الأدلّة السياحية. معلم مدهش في عيون السواح الآتين من بلدان تحاول سلب نسب الحجارة. "قلعة" على لسان أهل المدينة. حجارة لم يكتمل اقتلاع بعضها، فعبرت شك التاريخ تهزأ من استلاب بعض أحفادها.

المدينة الكبرى ذات يوم، تحوّلت إلى بلدة منتفخة بفقرها، مختنقة بفوضاها. الوطن لا يضمّها ولا يلفظها. لا يلتبس انتماؤها مع ذلك، ولا تتردّد في وجهتها. ولّت أيّام ازدهارها كمحجّةٍ لمحيطها، لكنها لم تنعزل عنه يوماً. ارتباطها بدولة ملتبسة الهوية، جعلها أكثر ثقة وأعمق اتصالاً بالمدن التي ترتسم فيها هوية المنطقة. واقفة ناحية الشام كبوابة مفتوحة لبيروت، إذا قرّرت يوماً أن تعود إلى الجذر الذي أتت منه. 

الشوارع الحائرة والمباني المتناثرة حيناً والمتكتّلة غالباً. المجالات الموزّعة في المدينة. أمكنة الناس، مغادرين أو وافدين، مقيمين أو مارّين أو زائرين. ترسم كلّها وجه المدينة بعينين غائرتين. لكن البصر لا يتوه ولا يخطئ وجهته. تستمرّ في زمن ليس فيه شيء منها. تتلمّس ما بقي من ملامحها، وإن مشوّهاً. تحاول أن تجد حيّزاً لاسمها في ساحاتها، وشكلاً لأحيائها وللمساكن فيها، لتستأنف السير قُدُماً. 

بين الذاكرة والنسيان تحيا بعلبك رغم كل الغزوات والمعارك. تسري برودة في أطرافها أو تنتابها حمىً شديدة، ثم تنتعش فتدبّ فيها الحياة بعد حين. تقاوم جحيم الأحياء. بينها وبين الدهر عقد، ينمو فوقها عصر وتنتفض عليه عصراً، لا هو يطمسها ولا هي تزيل آثاره.