الأحد، سبتمبر 21، 2008

الملوك على دين ناسهم

تدغدغ مشاعر الناس، تلهب حماسهم، تعدهم بازدهار ورفاه، شعارات تُكسب مطلقيها ثقة الناس فيصلون إلى السلطة. حدٌّ سواء في أكثر الأنظمة ديمقراطية أوأشدّها ديكتاتورية، مهما اختلفت التعريفات وتشابكت وتناقضت. أمّا أن يبرد حماس الناس تجاه شعار لمجرّد أن من رفعه ليس من دينهم فتلك هي القضيّة.

يوم رأيت للمرّة الأولى على إحدى اللوحات الإعلانية في بيروت شعار "إلا رسول الله" أخذتني الحيرة، هل قصد من رفع هذا الشعار أنّه قبل كل ما لحق بالإسلام والمسلمين من عار وويلات وأن هذه المصيبة هي القشّة التي قسمت ظهر البعير؟ دعوة المسلمين ليهبّوا نُصرةً لرسول الله بدت لي استخفافاً بعقولهم، أو على الأقلّ استخفافاً بالمصائب التي تعمّ عوالمهم ودويلاتهم. سخيف دون شك أن يقتنعَ إنسانٌ ما أن كرامة شخص غيّر وجه العالم كما فعل الرسول الأكرم يُمكن أن تمسّها رسومات سخيفة كتلك التي أقامت الدنيا وأقعدتها.

أن ينفعل المسلمون، وأن يغضبوا بسبب تلك الصور أمرٌ يمكن فهمه، وأن يتحرّك العالم الإسلاميّ المعولم بسبب تصريحات بابا روما أمرٌ يمكن فهمه أيضاً، لكن ما يستعصي على العقل هو اعتبار تلك الصور أنّها الحدّ الأقصى لما يمكن أن يقبل به المسلمون فيما غزّة المحاصرة لا يغمرها إلا نور الآتين من بلدان تلك الصور. لكأنّي بالذي هبّ لنُصرة النبيّ قد وجد بعد إعياءٍ ما يوهم به الناس بغيرته على الإسلام والمسلمين بالرّغم من سكوته عمّا يلمّ بهم في مدنهم ومنازلهم.

هل تخلّى المسلمون عن أقصاهم وأقداسهم؟ لو أنّهم تخلّوا لرأيتَ دولهم تدخل في دين اسرائيل أفواجا، لكن كلّما تناسوا سيحمل البحر قوارب آتية من لارنكا إلى أن تسبح غزّة بأسرها إلى قبرص.لو حاولنا أن نحصيَ ما ألمّ بهذا العالم الإسلاميّ لذُهِلنا، أو أقول إنّي حاولتُ فذُهِلت. هذا العالم الإسلاميّ الذي تقسّم وتشرذم، لكن لم تقسم ظهر بعيره إلا رسومات بائسة تافهة، فنحر بعيره وأقام مأدبة أخيرة.

ثمّة شبح يتهدّد اليوم العالم الإسلاميّ، ومداراةً للواقع، أو اعترافاً به، أقول العالم الإسلاميّ النفطيّ، هو ليس شبح الشيوعية الذي عاد إلى عالم الأشباح بفضل الانفتاح ونشر الديمقراطية بالوسائل السلمية، وهو بالتأكيد ليس شبح الديمقراطية الصديقة التي وجدت صيغةً للتعايش مع الديكتاتوريّات النفطيّة دون أن تخفض سلاحها في وجه الديكتاتوريّات الشمولية غير النفطيّة. ليس هو شبح نفاد النفط، ولا شبح احتمالات انهيار البورصات ولا شبح تضخّم الأسواق العقارية. هذا الشبح ليس شبح الإرهاب الأصولي المشغول أصلاً بتهديد عوالم أخرى. ليس شبح التقسّم ولاشبح ضياع البلاد وفناء العباد. بالتأكيد ليس شبح اسرائيل الرازحة على صدور من أبَوا الخروج من خنادق المعركة إلى نعيم رحاب العولمة. الشبح الذي يتهدّد العالم الإسلاميّ النفطيّ اليوم هو شبح دخول إيران إلى النادي النوويّ. الحقّ، أعتقد أن أشباحاً كثيرة تتهدّد هذا العالم اليوم، كشبح مواجهة روسيا للدرع الصاروخيّ الأميركيّ و شبح شافيز الذي يصول ويجول في الباحة الكبرى لعالم منتجي النفط وشبح التقدميين الذي يحكمون السيطرة على الباحة الخلفية للولايات المتّحدة. شبح أوباما. شبح "حسن نصر الله". ميليشيا ترفض أن تكون مجرّد ميليشيا خاضعة للقرار الدولي، مع أنّي لم أسمع عن ميليشيا خضعت يوماً لقرار دوليّ. سلاحه الصاروخيّ المرعب ليس إلا أسهل شروره. أمّا تفاهماته التي قد بدأ بتوسيعها فتلك الطامّة الكبرى. أن يوقّع تفاهماً مع بعض أهل الذمّة من النصارى لأهون على النّفس من توقيع تفاهمٍ مع بعض أهل السنّة من السلفيين. يوم اندلعت التصريحات الشاجبة لهذا التفاهم تراءى لي على اللوحات الإعلانية شعار "إلا توقيع التفاهمات". تفاهم بين شيعي وسنيّ! ماذا بعد ذلك؟ أن نعود لأسطوانة "إسرائيل العدوّ الأكبر" و"فلسطين هي القضيّة المركزيّة"؟

يوم "أعلنُ قناة السويس شركة مساهمة مصرية" التهب العالم حماسة، ليس العالم العربيّ ولا العالم الإسلاميّ فحسب، بل العالم بأسره. يومها اختفت الأشباح وصار جمال هو المارد الأسمر الوحيد الذي يتهدّد العالم، لم تُرفع شعارات "إلا عبد الناصر"، "إلا بلاد المسلمين"، "إلا العروبة"... يومها لم تقدر عباءات النفط أن تزرع شكّاً في قلوب المسلمين ولا وهماً. لم يكن جمال شيوعياً ولا من أهل الذمّة، والأكيد أنّه لم يكن عميلاً شيعيّاً للفرس. أثار أفضل ما في الناس، أثار ما اختزنوه سنوات طوال، من المحيط إلى الخليج، بالرغم من السياسيات والتحالفات والخيانات والتعقيدات. صور البطل الأسمر اجتاحت كل المساحات تماماً كما اجتاحتها صور البطل الملتحي المعمّم بالأسود إثر نهاية حرب تمّوز. لكن عمامات أخرى كانت بالمرصاد وتراجعت الصورة بسرعة، صورة الرافضيّ المنتمي إلى المنشقّين عن طاعة الخلافة من السهل أن تتراجع أمام "صلابة الولاء". ما تبع حرب تمّوز من مشاحنات ومناورات وتكتّلات والجهود التي بُذِلت لصبغها كلّها بألوان فئوية تغطية لحقيقة الصراع السياسيّ خدّر الحماس الشعبيّ وأعاد اندفاع الدم الهمجيّ في العقول، عدنا إلى داخل ما تُرك لنا من تراب لم يُحتلّ ونسينا ما وراء الحدود. لم يكن تذكيرنا مرّة بأن "نصر الله" شيعيّ يتربّص بالسنة ليفرّقهم ويقضي عليهم كافياً، لكن الإعلام المعولم ثابر على تنبيهنا حتّى تنبّهنا. يكاد لا يُذكر اسم "حسن نصر الله" مرّة في الإعلام الغربيّ إلا متبوعاً أومسبوقاً، حسب أصول اللغة، بصفته الشيعيّة، مع أنّي لم أصادف مرّة اسم أسامة بن لادن مقروناً بصفته السنيّة أو السعوديّة، وواقع انتماءات الشخصين لا يخفى على أحد. ليس سرّاً أن نصر الله توسّل شيعيّته، بل استنفدها في عمله السياسيّ، وليس سرّاً أنّه جزء من واقعنا الطائفيّ الرديء. هو، ككلّ من يعمل، قد أخطأ دون شك، ناور معتمداً على طائفته وغامر برصيده في الطوائف الأخرى دون شكّ أيضاً. لكن ألم يناور مرّات أخرى معتمداً على رصيده في الطوائف الأخرى؟ ألم يغامر برصيده في طائفته؟ هو جازف بكلّ ما لديه، حتى ببقائه على قيد الحياة، وذلك طبعاً لا يجعله ملاكاً. البحث في شخصيّته يطول ويتعقّد وتختلف فيه الآراء، وأنا شخصيّاً لست معجباً لا بعباءته ولا بحركة يديه ولا بغرّته الظاهرة من تحت عمامته، ولا بانفعالاته حين يخطب ولا بنكاته التي يلقيها. ولست ثملاً بما حدث في البقاع ولا في بيروت ولا في الشمال ولا في الجبل ولا في أيّ بقعة حصل فيها ما حصل. حتّى أنّي لا أقبل عبارات كسر اليدين وقطع الرؤوس التي لجأ إليها غير مرّة في حديثه المدافع عن المقاومة الإسلامية. أنا لا أحاول أن أعطيَ الرجل حقّه، فعنده من القوّة ما يكفي ليعيد توزيع الحصص والحقوق فيما حقّي كمواطن وكعلمانيّ ما زال شريداً. أحاول أن أتجاوز، ولو بالوهمِ، واقع انقساماتنا، نحن اللبنانيّون أو نحن العرب أو نحن شعوب العالم العربيّ، نحن الذين سكنت الشياطين تفاصيلنا فتناسيناها إلى أن تمدّدت حركة استيطانها التوسّعيّة إلى جوهرنا.

ماذا لو كان من أهل السنّة؟ هو الذي لاقته عفوية الشارع الذي لم يطبّع ولم يتعولم، وتلقّفه من لم يفقدوا أملاً ومن عضّوا على جراحٍ قديمة أو حديثة حتى لو كان هو من سبّبها. ماذا لو كان من أهل السنة؟ بأيّ انتماء كانوا سيتّهمونه؟ أو في أيّ كهف كانوا سيختبئون من موج ناسه الذين على دينه؟ أما كان النفط سيبحث عن قمّة ليكسر حصار غزّة؟ أما كانت لتنصت تلك العمائم والجلابيب وتترك الأمر لأصحاب الأمر؟ أما كانوا على الأقلّ سيبحثون عن نصرٍ ما لينافسوه؟ أما كانت اللوحات الإعلانية ستعلن "النصر لأمّة الإسلام"؟ ماذا لو كان حسن نصر الله سنيّاً؟ هل كان ليُهاجَم لو وقّع تفاهماً مع الشيعة؟ ماذا لو أن حسن نصر الله السنيّ نال قسطاً من الدعم العسكريّ الإيرانيّ أو المساعدات السياسيّة أو اللوجستيّة السوريّة؟ ماذا لو نال دعم دولةٍ يكون أهل السنّةُ فيها على رأس السلطة؟ ماذا لو؟

لو كان سنيّاً لما اتُّهِمَ حلفاؤه بدم رفيق الحريري، لأسقط الحكومة السابقة في ساعة، ولدخل عسكره شوارع بيروت تحت الأرزّ والزغاريد. لو كان سنيّاً لارتعدت فرائص الأنظمة ولملأت أصوات الناس كل عوالمنا ودويلاتنا ولما قامت قائمة لمشاريع تطبيع أو توطين، لخشيَ العالم من أزمة نفطيّة، لوصلت المظاهرات إلى المراتب والعروش، لانعقدت القمم على مدار الساعة، لانتهت حرب تمّوز في ثلاثين دقيقة أو لأشرفت بيروت على القدس ويافا. لملأت "سنّيّته" كل الاحتمالات الحالمة المستحيلة، أو لربّما ابتدعوا هزيمة أكثر ابتكاراً يمنون بها الشعوب.

لو كان سنيّاً لما أُعفيَ من "سنّيّته" كما هو اليوم غير معفيّ من "شيعيّته". لما نجينا من هواء الطائفية الأصفر، لكن لو كان سنيّاً لخسر الكثيرون حجّة "شيعيّته" واضطرّوا للبحث عن حجّة أخرى. الحمد لله، في عالمي تتوفّر الحجج التافهة بسهولة فلا يضطرّ أحدٌ للبحث عن كذبة ذكيّة، الكذبات البلهاء قد صدّقناها قبل أن تُرمى.

بيروت 28-8-2008

شخصياً يوم الحقيقة

يطرقون الباب، يطالبون بآلة التصوير التي لمحوها تلتقط صور الشبان عن الشرفة فأثارت الحفيظة. أرفض الطلب بلطفٍ مستعدّاً لتحمّل العواقب، اكتشافهم أنّي من الطائفة المناسبة وانشغالهم بما هو "أعظم وأهمّ" أنساهم وجودي. في الساعات القادمة سوف ينسون أو يتجاهلون وجود أي إنسان. التصعيد، بانكشافاته الفاضحة، حوّل كلّ الشفاه إلى سفيهات. إن أحداً لن يتراجع أو يتردّد في زهق الأرواح، أحداً لن يتردّد في تخلّيه عن إنسانيّته.

ضجيج تلك الليلة كان أخرقاً، يندفع الهواء المضغوط مرّات ومرّات عبر الشارع صعوداً حتى النوافذ، وترتعش له أواني المطبخ طوال الليل. كان شبيهاً بمخاض الشرق الأوسط الجديد الذي لن يولد أبداً. أغرب ما فيه أنّه لم يحمل خوفاً، إذ بدا لي ارتفاع الطوابق العاقل فاصلاً كافياً عن تخبّط الشارع بجنونه، وعن التصريحات اللاسياسية الرعناء. ما يدور ليس سوى غفلة غاب فيها ادّعاؤنا المكابر، وبانت المسافة التي تفصلنا عن حقيقتنا صغيرة جدّاً. الكهرباء لم تنقطع، ولا التصريحات الكاذبة انقطعت.

العنف الدائر يتجاوز جغرافية البلد، الأطراف كلّها تدافع، لا مهاجم ولا معتدي، الكلّ يقصد الأفضل للوطن والكلّ يسعى لبناء الدولة حتى لو كان سعيه دماراً شاملاً. الكلّ يقرأ في التاريخ السياسي ويستشفّ المستقبل. دم الشبّان يندفع حارّاً في رؤوسهم فيغشي الأبصار. وحدي أتوه في ظلمة جهلي شارداً، أتلمّس الأسود الملتفّ بحثاً عن جدارٍ واقفٍ أستند إليه فتلتقي يداي بأيدٍ ممتدّةٍ وراحاتٍ مصافحة. النقّال يرنّ ويطمئنّ كلّ دقيقة.

كلّ أزيزٍ وانفجارٍ حمل انعتاقي من كلّ مداراة لمدّعي الثقافة في العمل السياسي واحتقاري لهكذا قادة. الأصوات الدافقة من الخارج توضح ملامح المجتمع الممتدّ من غياهب تاريخنا الحديث. جريمة واحدة تبيح في بلدي المذابح وكل الجرائم الأخرى. تلاشت أصوات المعركة في قصف الرعد، وتحت أمطار الفصل الأخيرة تلك الليلة، اغتسلت من كلّ تردّد في المواجهة.

موقع القرار كالعذراء المغتصبة، المزارع الميليشيوية والمشاريع المالية، أكلة الجيف تمزّق أحشاء الأحياء. استيلاؤهم على السلطة بعد الحرب الأهلية الأخيرة خراقة ارتكبها الشعب اللبناني، ارتكبتها أنا شخصياً دون شك، لكنّ في التجربة غنىً، ولقادم الأيّام نعتبر. لن أسمح للغد أن يحمل ما يجد في طريقه، لا تعايش أركن إليه ولا صيغ أثق بها، الغد سأرسمه بأدقّ تفاصيله، غداً سأصنع دولة. غداً سأعدّ لهم سجوناً لا تشبه السجون التي أعدّهوا لي، بل سجوناً ممرّاتها يغمرها ضوء الشمس، وألوان زاهية، وكتبٌ يقرؤونها فيعقلون وحدائق خضراء يزرعونها، فيها كلّ ما ليس في السجون التي بنوها لي، في السجون التي سأعدّها لهم كلّ ما ينسيهم رغبتهم في الخروج والسعي إلى السلطة.


بيروت 1 / حزيران / 2008

السابع من أيار

نهار السابع من أيّار بدأ في كورنيش المزرعة بتجمّع شبّان عند المفارق المؤدّية إلى الشارع الرئيسي، ثم إلقاء قنبلة صوتية على الذين كانوا قد تجمّعوا عند "زاوية غاليري شور"، تلك الزاوية التي ستشهد الكثير من أعمال العنف والتي سيرسل من عندها مراسلون مختلف القنوات تقاريرهم المصوّرة.

الخريطة بالكلمات هي كالآتي: كورنيش المزرعة خط التماس الفاصل بين منطقة "بربور" المعارضة ومنطقة "الطريق الجديدة" الموالية. شارع "بربور" الموازي لكورنيش المزرعة يتعامد عليه شارع ينحدر باتجاه كورنيش المزرعة، زاوية التقاء هذا الشارع بالكورنيش هي زاوية "غاليري شور". في الجهة المقابلة لهذا الشارع "بورة" تطل من ورائها أبنية "الطريق الجديدة"، ومنها أيضا يطلّ شباب تلك المنطقة يطلقون هتافات معادية للمعارضة وداعمة للحكومة، وقبالتها يرفعون صورة كبرى للسنيورة ضاحكاً ورافعاً يده للتحية. قبالة تلك "البورة" ملالة الجيش اللبناني وعدد كبير نسبيا من عناصره يحاولون الفصل بين الجهتين.

صباح السابع من أيّار كان متوتّراً بوضوح، حركة مناصري المعارضة وتجمّعهم، حركة الدراجات النارية الكثيفة، القنبلة الصوتية، طلات مناصري تيّار المستقبل، إطلاق الهتافات من الجهتين، يشحن الأجواء وصولا إلى التراشق بالحجارة التي ستسقط كلها على الجيش اللبناني لأن المسافة الفاصلة بين الطرفين أبعد من قدرة الأيادي والعضلات المفتولة على الرمي. الجيش اللبناني يطلق قنبلة غازية، يتفرّق الشبّان ويعيدون التجمّع خلف المباني التي تسترهم عن أنظار الجيش وأنظار الشبان في الطرف الآخر.

يتقدّم النهار ويتصاعد التوتر وصولا إلى ظهور المسلّحين.

التاسع من أيّار. بعد مرور نهارا كاملا على سيطرة المعارضة عسكريا على كامل مدينة بيروت، أجول في شوارع بيروت: بربور، كورنيش المزرعة، مار الياس، البطركية، الظريف، الصنائع، سبيرز، الحمرا، كاراكاس، المنارة، الروشة، عين التينة، وعودة إلى كورنيش المزرعة. في معظم الشوارع ينتشر الجيش اللبناني ومسلّحو المعارضة في وقت واحد، تفصل بين نقاطهما بضعة أمتار فقط. التصوير مسموح شرط عدم توجيه الكاميرا إلى عناصر الجيش وآلياته ولا إلى مسلحّي المعارضة. في مار الياس يشرح لي أحد الملثّمين كيف سينسى كل الشعب اللبناني ما حدث في بيروت عندما يلمس التحسينات المعيشية الكبرى التي ستؤمّنها المعارضة للكل دون تفرقة، فهو قد اضطر لتسكير محلّه ولا يريد البقاء في شوارع بيروت ملثّماً مسلّحاً كما يقول. الأمر إذن ليس فقط مسألة شبكة الاتصالات الشهيرة بالنسبة له، أمله حياة أفضل. في البطركية دورية راجلة من ثلاثة مسلّحين غير ملثّمين للمعارضة لا يجدون مانعاً من تصوير ظهورهم ويتابعون سيرهم. مشهدان تكرّرا في تلك الجولة، مشهد الطرقات المقطوعة بكل ما توفّر من ركام وحديد وحاويات ونفايات أُفرغت من تلك الحاويات، ومشهدي أُخرج بطاقة الهوية أسلمّها لمسلّحي المعارضة أو عناصر الأمن الداخلي وأجيب على أسئلتهم التي تحاول مواربة اكتشاف طائفتي أو تسألني عنها صراحة.

في التاسعة والنصف ليلا تنتهي جولة ساعتين ونصف في شوارع بيروت التي خلّت إلا من الأمن والمعارضة ومنّي.

لا نكون شعباً إلا واحداً

بيروت في 18/1/2007

النبطية، بُعيد انتهاء العدوان الاسرائيلي عام 1996، استضافت لقاء "انتظارات الشباب" تحت عنوان "ظاهرة التضامن مع الجنوب" في كلية العلوم المواجهة لأحد المواقع العسكرية الاسرائيلية. كانت تلك مشاركتي الأولى في "انتظارات الشباب". يومها وقف حسين ضاهر معترضاً على عنوان اللقاء، فالظاهرة، في رأيه، هي أمر مستغرب أو نادر الحدوث، كأن تولد هرّة بجناحين، أو أن يتنحّى عشرة ملوك عن عروشهم في نهار واحد أو في سنة واحدة. والتضامن يكون بين طرفين منفصلين أو شعبين مختلفين، إذ يمكن للشعب الكوبي مثلاً أن يتضامن مع الشعب اللبناني، أو يتضامن الشعب اللبناني مع الشعب الموزمبيقي. لكن كيف يتضامن أهالي الشمال والشرق والغرب مع أهل الجنوب وهم شعب واحد؟ يومها اعترض حسين ضاهر على العنوان دون أن يقترح بديلاً عنه، بل اكتفى بالتمنّي لو أن العنوان كان مختلفاً، لكنّه كان متأكّداً أننا شعبٌ واحد. شاب آخر تمنّى لو يبقى الجنوب تحت العدوان الإسرائيلي كي تبقى قضيته حاضرة في العقل اللبناني العام ووجدانه، وليس فقط في الذاكرة والخطابات الحماسية.

بعد أكثر من عشر سنوات من التاريخ المُعاد والمُعاش بتكرار إلى حد الملل والفضيحة واليأس والهجرة والأسئلة المستحيلة والإجابات المستعصية، وضياع الذاكرة والهوية معاً ، نجتمع بدون صدفة، بل في سلسلة طويلة من اللقاءات والمؤتمرات الشبابية بحثاً عن الوطن واقتناعاً بضرورة وإمكانية بل حتمية التغيير.

أحاول أن أساعد حسين ضاهر في إيجاد الكلمات والمفردات، ربّما كان التماسك الشعبي هو ما يصف الذي حصل عام 1996 وتكرّر عام 2006 وإن كان هذا التكرار قد حصل بحماس أقل وبشكّ أكبر بكثير. أحداث ومشاهد تكرّرت على طول الذاكرة الشعبية وعلى امتداد مساحة الوطن: الاتهامات، الاغتيالات، الحكومات، الحوارات، الوساطات، الأزمات، الديون، التحالفات، المحاور، الضرائب، الهجرة، البطالة، الاعتصامات، المظاهرات، المواجهات، النيران على المتظاهرين، الخوف من الفراغات الدستورية، حتى بتنا نخشى الفراغ الدستوري كما كانوا يعتقدون في العصور المظلمة أن الطبيعة تخشى الفراغ. مشاهد أخرى تكرّرت: الأضواء، المهرجانات، الاحتفالات، الآمال، الاندفاع، لكن أكثر ما تكرّر هو محاولات الصمود غير اليائسة على كل الأصعدة والجبهات. هل هذا التكرار المشترك يجعل منّا شعباً واحداً؟

شعبٌ واحدٌ، أي متفاهم ومتناسق ومتكامل، يعمل من أجل دولة واحدة ومستقبل واثق واضح المعالم. شعبٌ واحدٌ لديه مناعةٌ ضد عوامل التفكك والانهيار، هو شعبٌ لا بدّ ان يلتقي على أسسٍ واقعية وعملية. يعيش في دولة تتقدّم بالدرجة الأولى وفق خطة اقتصادية انمائية، تؤمّن مصالح أبناء هذا الشعب وتضمن صلابته أمام الأزمات التي قد تعترضه، خاصّة في منطقة كثيرة القلاقل والنزاعات كالشرق الأوسط. فاحشو الثراء والمدقعون في الفقر كما العاطلون عن العمل لا يكونون شعباً واحداً ، لا في لبنان ولا في أي بقعة من العالم. من يموتون فلا يجدون من يدفنهم ومن يُدفنون في صخب وهرج ومرج، لا يمكن أن يكونوا أبناء شعب واحد. ليسوا أبناء شعب واحد من تستخدمهم المحاور على اختلافها، ومن يناضلون لتحقيق الاستقلال والحرية والديمقراطية. لكن ليس ما يمنع هؤلاء وأولئك من العيش على أرض واحدة في ظلّ دستور جامع وقوانين عادلة ودولة واحدة. لذا نحاول جاهدين، كغيرنا من شعوب العالم، أن نكون شعباً واحداً في هذه الدولة. نحاول ذلك عبر البحث عن نظام سياسي نتقبّله لما فيه من العوامل الجامعة لنا كجماعة بشرية تسعى لأن تكون شعباً. فماذا يعترض بحثنا عن ذلك النظام السياسي؟

لا يمكن أن نتفق على نظام لا يجمعنا إلا كأبناء طوائف مختلفة. نظامٌ يدفعنا إلى البطالة والهجرة. لن أصدّق أنّهم يختلفون على نظام سياسي هم فيه حكّامٌ يصادرون قرارنا باسم التمثيل والتوازن، ويجنون ثمار عملنا وبطالتنا وهجرتنا واقتتالنا. نحن شعب واحد أمام أبواب السفارات، وشعب واحد في الساحات والاعتصامات وإن اختلفت الأهداف. وهم شعب واحد فوق الكراسي، في الاختلاس وإثارة النعرات وجني الثروات الخيالية ، وانتهاز الفرص وإن تضاربت المصالح.

من جمعهم تاريخ مشترك، كانوا شعباً واحداً، لكن سوف يكونون شعباً واحداً أولئك من سوف يجمعهم مستقبل مشترك.

"كيف نكون شعباً واحداً؟" ضرورة الوجود في "نكون" تسبق استحقاق الشعب الواحد. أن "نكون" تفترض ضمناً ألا "نفنى" فلا نكون. بين الملايين المتظاهرة في كل مناسة، أكثرية ضامنة لبقائنا. لكن هل بين البعض الحاكم أوالساعي الى الحكم، ولو أقليّة، ترى وطناً في قيام الدولة الحديثة؟

كيف نكون شعباً واحداً؟!

خيار وحيد: لا نكون شعباً إلا واحداً

الــوقــت الـثـانــي

بيروت 27/08/2006

توقّفت في منتصف الدرج واستدارت بطيف ابتسامة محنية رأسها بعض الشيء في استجابة عذبة لتصفيق ألهب أيدي بضعة شبّانٍ دخلوا المعابد باكراً، قبل غروب الشمس. أفعمت قلوبهم ثم استدارت متابعة صعودها بعد أن توقّف التصفيق. دخلت الإلهة معبدها العتيق. اختفت بين ما تبقّى من حجارته وبين ما تم تركيبه خصّيصاً لها.

ملأ الليل الفراغات في المعابد بسرعة تلك الليلة، كنّا بالكاد نصدّق حقيقة ما كنّا على وشك أن نعيشه. ستقف على تلك الأدراج شمعة من زمن اعتقدته مضى دون أن يترك سوى عبق في روايات من عاشوه، ستضيء الزوايا والحنايا بنقطة زيت واحدة في السراج. امتلأت المقاعد وما بينها. كان الطقس ملائماً لتلك المناسبة، نسيم الليل موآتٍ. الكثير من التفاصيل التي لن تتسرّب أبداً من الذاكرة. حين عزفت الموسيقى، راحت العيون تبحث عن الإلهة العائدة إلى المدينة. حتّى تجلّت زرقاء معتلية التاريخ. انتهت الحرب. رجعت فيروز إلى بعلبك تسأل عن الذي ما يزال خياله على الأدراج وتطير به الدنيا. كانت تبحث عن عاصي. موسيقاه ومنصور تصقل صخر المعابد مرّة أخرى فتعيد إليها رونقاً دون أن تزيل عنها شواهد الأيّام. صوت فيروز يعبر السهل إلى أطرافه عند سفوح السلسلتين، يطرق أبواباً منسيّة في الحارات، "وينن؟" يسأل عن الذين كانوا فيها. وجهها إلى السهل الواسع، وطنها "كالسيف المسنون وبهدير الأيام الجايي مسكون". فيروز في بعلبك. خلتها قصّة تُروى عن بلاد وهميّة. ليس لأنّ فيها عين ماء وجرار وقرى سعيدة، بل لأن فيها كثير من العزّة والمقاومة. هذه المدينة لم تعانِ شيئاً يُذكر من الحرب الأهليّة أكثر من غياب فيروز والأخوين.

يوم غابت فيروز عن الأدراج، قُرعت طبول الحرب في بعلبك، وإن على إيقاع مختلف عن إيقاعاتها في الأرجاء الأخرى. مرّت سنوُّ الحرب، غبارها بالكاد أزعج المعابد. انتهت الحرب في بيروت وبقيّة الأماكن. كل المطارح أضيئت قناديلها وعمرت لياليها، واجتاحها سائحون يتكلّمون بلهجات ونبرات عربيّة وأجنبيّة، المطاعم والملابس والموسيقى المعولمة أو المتأمركة، لا فرق. كل شيء يوحي أن الذاكرة قد انقطعت، أن الحرب وكلّ ما قبلها تفاصيل ضاعت في النسيان. البلد جاهز لما سوف تأتي به أيّام السلم، أو قل أيّام صمت المدافع. لكنّ الحرب لم تنتهِ في بعلبك. غياب فيروز هو الحرب الوحيدة في المدينة، وغناء فيروز مفتاح ذاكرة المدينة الوحيد.

حين عادت تقف على قمّة الأدراج، أعلنت السلام على الأشجار والشوارع والأزقّة والناس. أعادت مشاهد كنتُ قد تخيّلتها بألف شكل وألف لون. عاد صفاء قديم إلى ليل الأعمدة الستة. تلك الليلة نَسِيَت الأعمدة، مرّة أخرى، جرحها المفتوح منذ تهاوت الأسقف عن تيجانها مع سقوط أعمدة أخرى كانت تؤازرها.

هكذا غابت فيروز فقامت الحرب، و لم تقعد إلا بعودة فيروز.

شهر تمّوز هذا العام، انتظرت فيه المدينة سلامها في لقاء جديد. لكنّ حرباً أخرى قطعت سبل السلام ومعابره، موت بلا جنائز غيّب أفق الفرح. هذه الحرب طاولت بعلبك بعنف. طالت المنازل والأحياء. خلت الشوارع والمقاهي والليالي من أصوات السهرانين وغصّت بانفجارات القذائف والصواريخ. تمرّد الغبار وحده. ليس لهذه المدينة بوّابة، لكن ليلة وصل إليها الغزاة، ضجّت الفضائيّات والدنيا بأخبار الإنزال. غياب البوّابة، لم يمنع مدلج من أن يصمد دون خوف، وحده في وجههم. تلك الليلة من تموز صمد مدلج ذاته، باسمه ولحمه ودمه وشعره "المخوتم". إسمه مدلج كما شاءت الصدفة، وسقط مع انبلاج الفجر بطلاً لم ينل منه خوف. ربّما خرج من الحكاية، أو كتبها ، أو أن الحكاية الرحبانيّة كانت قد كُتَبَت له.

المشاهد التي أخرجتها ريما تملأ الشاشات وتبعث في الأجساد قشعريرة. نبحث في الصورة عن ابتسامة، عن انتصار، عن انبعاث ينفض الأنقاض، عن الذي لا بد أن يجيء مهما تأخّر. نتساءل أحيانا في غمرة الانتظار عن الذي لا بدّ أن يأتي. سيأتي سلامٌ وانتصارٌ ومجد، غدٌ يحمل أملاً. نخشى أن يكون الآتي شرق أوسط جديد على الشكل الذي يرسمونه. بعض إيماننا ليس ساطعاً، لكن يبدو لنا أن إيمان فيروز والأخوين رحباني يسطع بما يكفي. نستكين إلى سطوع صوتها الصدّاح والكلمات، أو ننتفض على وقع الحرب.

انتهت الحرب مرّة أخرى في الأماكن الأخرى، إلا في بعلبك. سلامها لم يأتِ بعد. لم تلعلع ضحكة زياد ولم تخرق سماء الصيف. لم تعتلِ فيروز الأدراج بعد. لم تعلن سلامها، ولم ترسم فصلاً جديداً في حاضرنا ومستقبلنا بعد. ما زالت قصص أطفالنا الذين لم يولدوا ، تنتظر روايات جديدة لم تُكتب. قصص الجن تبحث عن جسر القمر وعن سهرات ورواة يروون "قصّة خلف القصة تجن". فاتك قد فرّ مع ديبو والعسكر. القطار الذي لم يصل إلى محطته بعد، لن يكون بانتظار استيقاظ الحاكم النائم ليطبع ختمه موافقا.

بالأحمر كفنّتهم بعلبك شهداءها، وبالأخضر والأبيض والأسود. فصل الزهور قد ولّى واقترب الحصاد. هي قد وفت النذر القديم ومشت صوب الموت فغلبته، تركت "وقت الحكي" وانتصرت في "الوقت الثاني". أقدام أولاد عادت تتفقد المراتع حافية، يلعبون في الحارات ويفتّشون عن "خيطان"، يلهون ببقايا الحرب ويضحكون، يدلّون بأصابعهم الصغيرة إلى جبال انكشفت أمامهم للمرّة الأولى من وسط الزقاق. تقف بعلبك بينهم، في قلبها غصن الوفاء النّضير وسط دمارها العظيم، قرب جدارها الأخير لتنادي فيروز: "خلّيكِ عنّا".

دور الجامعات في بناء المواطنية

أتكلّم اليوم ، كطالب جامعيّ ، عن دور الجامعات في بناء المواطنية، أشعر كأنني أنظر إلى نفسي لأرى أي مواطن أنا، أي مواطن يمكن أن أكون، وأي مواطن يجب أن أكون. إن كان المقصود بكلمة "مواطنية"، إدراك واجباتي وحقوقي تجاه الوطن ، لا يسعني إلا أن أقفز للمقارنة بين طلاب الأمس ، قبل الحرب ، و بيننا نحن ، طلاب اليوم ، بعد انتهاء الحرب ، بل بعد أكثر من خمسة عشر عاما على انتهائها. بين طلاب صنعوا تاريخ الوطن الحديث بكل إنجازاتهم وأخطائهم ، فرسموا صورة لحركة طلابية وطنية مجيدة، وبين طلاب يهرعون إلى السفارات فور نيلهم الشهادة ، تجذبهم وعود أحلامهم في زمن العولمة ، وتحبطهم خيباتهم من واقع السوق الشرسة. لأن المواطنية في رأيي لا تتوّقف عند حدود احترام القانون ، بل تتعدّاه إلى احترام حق الوطن الذي لا يكفله قانون أو دستور ، حق الوطن في أن يستردّ بعض ما قدّمه لنا ليقدّمه لأجيال تتبعنا.

كلمة "مواطنية" تحمل إلى نفسي حذراً من التحوّل إلى دافع ضرائب ، و تطلق العنان لحلمي في الترفّع عن كل انتماء عنصري، وأن تربطني بمؤسسات الدولة علاقة تحكمها القوانين، مستقلّة عن كلّ زعيم و حرّة من كلّ ارتهان. أن أكون طالباً جامعيّاً أتمتّع بحقوقي كمواطن، يعني بالنسبة لي أن أنتمي إلى جامعة لا تحكمها وساطة و لا ترسم شعاراتها عصبيات و لا تحدّد شعائرها طوائف. تستوقفني بعض المشاهد من الحياة الجامعية : عشرة طلاب يتكوّمون على مقعد واحد ثم ينهضون عن حطامه مقهقهين . عمود كهرباء يُكسر قبل مرور الأسبوع الأول من العام الدراسي في المباني الجامعية الجديدة في الحدث . جدار تغطّيه أثار الأحذية . طالب يسيل دمه من بطنه إثر طعنة من سكّين زميله في كافيتيريا الكلّية . عراك بين عشرات الطلاب يتجدّد كل أسبوع. طلاب يرفضون المرور بالمعابر عبر خطوط التماس القديمة على الطريق بين المنزل والجامعة. تلك مشاهد يمكن أن نصادفها في أي من جامعات لبنان ، حتى التي توصف بأنها الأرقى. كلّها مشاهد أراها مستقلّة تماماً عن احتلال الجنوب و اغتصاب فلسطين و الوجود السوري في لبنان ، و هي إلى ذلك، قد غُضّ الطرف عنها لأحد تلك الأسباب على ما قيل .

دور الجامعات في بناء المواطنية، يعني أن يكون للجامعة، إدارةً و طلاباً و أساتذةً، مساهمةٌ ما في بناء مواطنية ترقى بالفرد ليكون منتجاً في مجتمعه، وبالمجتمع ليحقّق تقدّماً نحو حياة نتساوى فيها أمام القانون ، متجاوزين العرقية والعصبيّة والطائفية. أمّا واقع دور الجامعات في بناء المواطنية فيبدو للبعض أنّه في حالة موت سريري فيما يبدو لي أليماً. دون أن أغفِل الكثير من الكامن نحو الأفضل . قد يسرع البعض لإلقاء التهمة في التقصير على الحكومة إدارات الجامعات و القييمين عليها ، و أنا لا أبرّئهم من تلك التهمة ، فأنا لا أفهم كيف يحقّ لجامعة ما، أن تمنع طلابها من انتخاب مجالس تمثيلية طلابية، أو التعبير عن آرائهم السياسية، أو انتماءاتهم الحزبية، وتلك حقوق كفلها الدستور. أيّ مواطنية نرتجي في مؤسسات تخرق الدستور بأنظمتها الخاصّة. كما لا أعقل كيف نتخلّى في مجالسنا التمثيلية ، حيث وُجِدت ، عن الحقوق التي اكتسبتها هذه المجالس عبر نضالات من مرّوا قبلنا ، و كيف نتخاذل في أداء المهمّات التي توجبها علينا الصفة التمثيلية من دفاع عن حقوق الطلاب و حفاظ على المؤسسة الجامعية و المطالبة بسياسة اقتصادية تكفل لنا توفّر فرص العمل بعد تخرّجنا، لأنه من المستحيل بناء مواطن صالح عاطل عن العمل أو مهدّدٍ بالبطالة .

في الجامعة نلتقي فنكتسب و نعيش و نتفاعل ، ككائنات إنسانية واعية مسؤولة قبل أن تنشأ بيننا أي علاقة أو مصلحة اقتصادية فردية . نلتقي بنفوس رحبة حافظت على الكثير من نقائها ، فتكون الأبواب مشرّعة و الآفاق مطلقة ، لكننا نلتقي على أرض فرزتها الانقسامات السابقة و قطّعتها خطوط التماس الممتدّة من زمن الحرب و الاقتتال ، فنجدنا سائرون كأنّما دون وعي إلى القعر الملوّث ، ونحلّ لأنفسنا ما أحلّت لهم نفوسهم زمن الحرب. لا أنظمة عامّة نتقيّد بها ، ولا اعتبارات معنوية نقيم لها وزناً . ندخل حرم جامعتنا صباحاً، مسلّحين بحساسيّات القياديين الموتورين ، يعمينا جهلهم ويدفعنا صلفهم، ونسير في الجامعة كما ساروا في أزقّة الفساد. هكذا تبدو الحياة الجامعية اليوم جزءً من الحياة العامّة في الوطن، تتناتشها العصبيّات و تغلّفها الشعارات المعولمة للثقافة الاستهلاكية، بدل أن تكون مثالاً رائداً، واعياً الواقع، مقاوماً للطاغي الفارغ، مثالاً ينطلق ليُعمّم.

الحياة الجامعية لا تنحصر بحدود جدارن و أحرام المباني الجامعية، بل تخرج منها لتنساب في المدينة كلّها، في الشوارع و الساحات و المسارح و الأحياء. يحمل الطلاب الجامعيون حياتهم في الجامعة لتحلّ حيثما حلّوا. فإذا حملوا من جامعاتهم مواطنية راقية رفعوا الوطن إلى مستوى الدولة الحديثة. لكننا نخرج اليوم حاملين احتقاننا أو تيهنا بوساطة أو تجاوز أو انتصار في معركة دامية، ننظر إلى ما يحيط بنا فنرى متاريس و دشم حرب شوارع أو اسطبلات و زرائب مزارع، و نخاطب الآخر كمن يخاطب عابراً يحمل الهوية الطائفية "غير المناسبة" على حاجز أقامته الطائفة "المناسبة"، وننساق خلف الراعي طلباً للماء و الكلأ.

لا أصف ما أراه في واقع الحياة الجامعية اليوم لأقول أن الساعة قد دنت ، بل لأقول أنني أرفض كلّ ذلك ، وأنني على قناعة أن تلك الحال لا يمكن أن تستمر. إنني على يقينٍ أن غداً لن يجتمع أكثر من خمسة طلاب لتحطيم المقعد، ولن يقهقهوا ، بل سيخجلون من النظرات المستنكرة . و البناء الجديد في الحدث ، قد لا يبقى جديداً لمدّة طويلة ، لكنّه سيحافظ على أعمدته الكهربائية كاملة. لن أرتعب من لون الدم في الكافيتيريا لأنها لن تكون سوى مكان نلتقي فيه لنعدّ نشرتنا الشهرية . لن تنشب عراكات بين الطلاب و لن أسمع صدى السباب والشتائم يرتدّ في الشارع لأننا سناتبع إصدار نشرتنا المتواضعة فعلاً ، لكنّها ستفرض الموضوعية على كل وسيلة إعلام . سنحرص على إجراء انتخابات طلابية ديمقراطية نرفض بعدها أي انتخابات أقلّ ديمقراطية . سننطلق في الشارع نطالب بكتاب تاريخ موحّد لأننا أدركنا هويّتنا وإن تاه عنها أمراء الحرب. سنقطع امتداد الميليشيوية في الجامعات فلا تجد ما يغذّيها ويجدّد سطوتها على مؤسسات الدولة. لن ننظر بحسرة إلى الطلاب يندفعون في باريس فيجبرون الحكومة على التراجع. لن ننظر إلى أبواب السفارت الحديدية المغلقة دون صفوف المواطنين الطويلة يتوسلّون الهجرة. سننظر إلى الواقع فنرى الممكن و ننطلق ببرامج حقيقية تحوّل خطابات أحزابنا إلى رؤية متكاملة لوطن يحلو العيش فيه.

آذار 2006

لا لـلطــائـفـيــة ..................الآن بـالـذات

أقلّب أقنية التلفزيون كما اعتدتُ أن أفعل حين يغلبني الخمول، تمرّ الصور أمامي متشابهة تماماً، كما اعتدتُ أن أراها، "لا للطائفية" بخطٍّ أبيض عريض على خلفية سوداء، كما اعتدتُ أن أسمع وأرى. أثار فيّ الشعور بالسخرية من الغباء المتجذّر شعار "لا للطائفية" الذي اعتدته على مرّ سنوات الطفولة و الشباب، تشدّقت به ككل لبناني، استسغته كما استسغت صور أمراء الحرب وزعماء الميليشيات "ينقذون البلد" من الفتن والمؤامرات، ويتعالون على جروح الماضي و يعفون عن بعضهم أو عن أنفسهم، يرسخّون الديمقراطية في بلد الحرية ، يجذبون السواح والمستثمرين ، يقاومون ويفدون الوطن بدماء الشهداء يقودون الوطن إلى دولة المؤسسات ... تلك المؤسسات التي طاب لهم بناءها عوجاء ثم هدمها ثم إعادة بنائها عوجاء نحو الجهة الأخرى ، وطاب لنا الكلام عن كذبهم وريائهم.

"لا للطائفية" تمرّ أمام عينيّ فينتعش بي الحنين لشعارات المظاهرات و الإعتصامات و أوراق الصحف و نشرات الأخبار . سنتخلّص من الطائفية يوما ما، و سنبني "لبنان المحبّة" ، "لبنان الدولة العصرية"... لكن ما يفاجئني و يدفعني للضحك بصوت مسموع ساخراً من نفسي ، أن ينتهي إعلان "لا للطائفية" بـ "عراقنا"... إذاً هي ليست الطائفية في لبنان، إنها طائفية أخرى في العراق، بالكاد رأت النور تلك الطائفية، ما زالت طفلة رضيعة، لم تبلغ سن العصيان بعد كالطائفية في لبنان. ليتنا كنّا في زمن الجاهلية، زمن الوأد، ربما وأدنا الطائفية الرضيعة قبل أن تكبر، وأدنا المؤامرة قبل أن تتربّص بنا "في هذا الوقت بالذات" ، هذا الوقت بالذات الذي لا ينتهي ، يبقى أبداً "الآن بالذات". الطائفية التي مرّت على شاشة التلفزيون إنما هي طائفية العراق وليست طائفية لبنان. ليس هناك طائفية في غير لبنان، هي ميزة لبنانية بحتة، أو كذبة لبنانية بحتة، كما نسمّيها. لا للطائفية... في العراق طوائف تتذابح. لا للطائفية... في مصر طوائف تتذابح. لا للطائفية... في سوريا طوائف ستتذابح. لا للطائفية... في لبنان طوائف تذابحت وتتذابح. لا للطائفية... في الوطن العربي طوائف متذابحة تنسلّ تحت جلدنا و تحرّك أيدينا نحو السكاكين والنحور. غبار الدمار في بيروت يعبر البحر إلى مغارب وطننا ، يعبر الصحراء إلى مشارقه. غبار دمار الحرب الأهلية، حرب الآخرين على أرضنا، حرب لا نعرف كيف نسميها، كيف نرفضها، كيف ندّعي أنها لم تقع يوماً عسى أن تُتاح لنا فرصة أخرى لنعيدها مرّة أخرى، قد لا تكون في لبنان، بل في أي بقعة عربية أخرى، أي بقعة يتنادى فيها زعماء الطوائف لرفض الطائفية ، ويهبّ القتلة للمقاومة ، و يتداعى أمراء الحرب لترسيخ التعايش السلمي ، و يسعى كبار المتموّلين لجذب السواح والمستثمرين.

في العراق سنقتتل خمسة عشر عاماً و "نخرج لتوّنا من الحرب" و نحرّر و نعيد البناء لخمسة عشر عاماً أخرى، وسنستقلّ ونتحاور و نعزّز العيش المشترك... سنكتب تاريخنا ألف مرّة في كل بقعة عربية ، و سنخجل منه في كلّ مرّة ، وسنعتاد أن نرسم مئذنة مسجد قربها جرس كنيسة كما اعتدنا أن نفعل في كل مرّة.

بيروت في 17/04/2006

التأثير الثقافي للعولمة

لعل العولمة الثقافية هي الوجه الأكثر عمقاً في التاريخ من أي من وجوه العولمة . إذ قبل أن ينطلق الفاتحون الكبار لضم العالم إلى إمبراطورياتهم ، على حدّ زعمهم ، كانت الأديان و الأيديولوجيات و الفلسفات تحاول أن ترتدي ثوب الشمولية و الكونية . فالعولمة كانت أمية بمعنى أممية مع اليهود و الإسلام و إنسان و إنسانية مع المسيحية و الإسلام ، ثم تغيب لتظهر من جديد في كل عصر لها لون و اسم جديد أو متجدّد .

و اليوم لم تعد العولمة الثقافية تجرّ خلف راياتها جيوش المسيحية و الإسلام نشراً للعقيدة و الثقافة و المفاهيم ، بل تخلّت عن الراية ، مشكورة ، لتعطيها للعولمة الاقتصادية التي نضجت ظروف تشكّلها بدأت حربها الشعواء .

لذلك أظنّ أن الحديث عن تأثير ثقافي للعولمة يجعل الموضوع مجزوءً ، فالعولمة ليست نظاماً اقتصادياً يؤثر في السياسة و الثقافة ، بل هي كما أفهمها ، بلوغ نمط الإنتاج مستوىً معيناً يتعذّر معه على الحدود الجغرافية - السياسية أن تبقى صامدة . فالعولمة بهذا المعنى لا تؤثر في السياسة ، بل تحتّم نظاماً سياسياً يستجيب لمتطلّباتها . و لا تؤثّر في الثقافة ، بل تحمل وجهاً ثقافياً و يقتحم و يدمّر ، أو يحاول تدمير كل ما يتعارض مع الموجبات المستجدّة للعولمة . وجهها الثقافي تنقله إلى العالم وسائل الإعلام العالمي ، و حيثما ينفذ يترك بصماته التدميرية تقول : " العولمة آتية إلى هنا " على غرار ما كنا نرى : " أبو الزوز أو أبو الجماجم مرّ من هنا ".

من أجل دفع المستهلك إلى شراء سلعة جديدة ، يفعل الإعلام " السبعة و دمّتها " موهماً " المُستَهلَكين " بضرورتها و عدم إمكانية العيش الرغيد الكريم بدونها . فالاستغناء عنها يعني " التخلف " عن ركب الحضارة و عن العالم كلّه الذي اكتشف أهميّتها منذ زمن بعيد ، و لم يعد يستغني عنها أيضاً و صار يستهلكها بانتظام .

و اللبناني طبعاً ليس متخلّفاً عن العالم .

و في حين نرى الإعلام الغربي " المتقدّم " يسخّر الإنترنت و القنوات الفضائية لتسويق ثقافة يوهمنا أنّها ثقافته " المتقدمة " ، نرى وسائلنا الإعلامية تعيد بخبثٍ حيناً ، وبغباءٍ أحياناً ، بث و تسويق تلك الثقافة . الإنتاج الإعلامي المحلّي يطمح إلى تقليد الإنتاج الغربي فتتداعى القيم و تتداعى حتى اللغة .

إعلانات السجائر و المشروبات الكحولية و الأفلام و المسلسلات الأميركية بوجه خاص ، تعمد بشكل أساسي إلى تصوير العنف باعتباره بطولة ، " الحرامي " ذكي و قوي و شرس ، و " البوليس " أذكى و أقوى و أشرس ، فالبوليس هو البطل . الهندي الأحمر يصبح متوحشاً يتّسم بالخبث و الغدر ، و راعي البقر الأميركي يصبح شهماً شريفاً مقداماً بطلاً يهزم الهندي الأحمر الشرير ، رامبو وحده يقلب المعادلات السياسية و العسكرية ليكشف " لؤم " الفيتنامي و " جبنه " و " غبائه " . هكذا ، بكل سهولة يريدون أن يزيلوا من ذاكرة الشعوب صورهم البشعة والقذرة ليلبسوها ثوب البطولة ، حتى صرنا ، رغم تبجّحنا كلبنانيين و كعرب ، بامتلاكنا أرقى التقنيات و المهارات الإعلامية ، و نظن أن إسرائيل مثلاً لم تعد قادرة على ممارسة العنف ضدنا سرّاً دون أن يرى العالم أجمع ذلك و يدينه، صرنا نخاف من أن يكون التسويق للبطل العنيف قد اغتال لدى الرأي العالمي كل ردّة فعل ضد العنف . صرنا نخاف من أن نصفّق يوماً للبطل الذي سوف يوجّه بندقيته الليزرية إلى صدورنا ، فالأنظمة العربية منشغلة بقضايا يزعمونها كبرى ، و تعبّر بوضوح عن إصرار بالتخلي عن واجباتها في هذا المضمار ، و الأحزاب السياسية تسير على هذا الصعيد بخطٍّ متوازٍ مع خط الحكومات . و الكل مجمع على أن تأمين العلم و المعرفة والحياة الكريمة للمواطن يأتي بالدرجة الأقلّ إلحاحاً ، متناسين أن المواطن الذي تُرعى حقوقه هو درع الوطن و حصن الثقافة و حامي الهوية . ما دامت هويتنا ضائعة بين الوطن والعشيرة و الطائفة ، و ما دام تاريخنا متشرّداً بين أمراء الجبل و إقطاعيي الداخل و تجّار الساحل ، و ما دمنا نجترّ الأخطاء و لا نتعلّم منها ، كيف نمهّد لأنفسنا الطريق لاستقبال الآتي العظيم ؟ إن أسلوب النعامة لا يصلح لمواجهة العولمة ، و من يرى الحل بالرفض هو كمن يريد أن يجفّف البحر بدل أن يتعلّم السباحة .